ما الفرق بين ” أكشن” و”تكبير”

النقاش كان حاميا في إحدى المقاهي الثقافية بمدينة تونس بين ثلة من المهتمين والأصدقاء حول سؤال لم يكن ليجرؤ عليه أحد في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بل إن هذا السؤال لم يكن يخطر أصلا في أذهان الناس.

السؤال هو: ما مدى براءة فيلم “الرسالة” ذي الصيت الذائع، لمصطفى محمود العقاد، (إنتاج 1976) من تعمّد زرع وتغذية التطرف عبر تلك المشاهد ذات الطابع الملحمي والنكهة الهوليوودية؟

كيف لفتى مسلم في ذلك الوقت أن يفلت من تلك الفرجة الآسرة والحماسة الزائدة في تمجيد المقاتلين المسلمين دون سواهم من البشر في عهد الأباطرة والأكاسرة؟

ومهما احتدّ وتشابك الحوار بين الاتهام والتبرئة والزج بنظرية المؤامرة من عدمها، فإن الجميع يكاد يتفق على قوة تأثير ما يعرف بالدراما التاريخية الإسلامية “المتقنة” على أذهان الشبان واليافعين، وتهيئتهم لاستقبال الفكر الجهادي.

لنقم بجرد افتراضي على امتداد العالم العربي، وبإحصاء عدد الذين سموا مواليدهم باسم حمزة بعد مشاهدة فيلم “الرسالة”.

لنبعد أكثر من ذلك، ونسأل أنفسنا: هل أن تلك الملابس والنبرة في الكلام وحتى الأسماء التي تتكنّى بها قيادات وعناصر الجماعات الإسلامية، والتي جاءت على شاكلة “القعقاع” و”أبوقتادة” و”ابن الزبير” وغيرها، بريئة من تأثيرات الدراما الرمضانية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي؟

ما من أحد ينكر حالات الاستلاب التي حصلت من وراء الدراما التاريخية الإسلامية في مجتمعات تستهلك التلفزيون وسيلة وحيدة للاطلاع والتسلية، وذلك على عكس المجتمعات المتقدمة ذات التقاليد الراسخة في التحكم في الوقت.

هذا عن عمل سينمائي واحد، سلب الألباب لجودة صناعته وقوة “بلاغته الإسلامية” حتى صارت غالبية المؤسسات التلفزيونية العربية تبثه وتعيد بثه في كل مناسبة دينية، فما بالك بمئات الأعمال الشبيهة التي هيجت المشاعر وأبكت البسطاء لـ“حال ما وصل إليه الإسلام والمسلمون”.

علينا أن نقبل بأن إنسان منطقتنا بسيط وهش وعاطفي إلى حد أنه ينقاد إلى أي فكرة تغذي فيه مشاعر الكرامة و”الذود عن الأعراض” وحتى الانتقام.

ليس هناك أفضل من الدراما وفنون التشويق للقيام بمهمة التحكم في مشاعر الفرد في العالمين العربي والإسلامي. ومن الباحثين من يرجع ذلك لطبيعة وبنية الثقافة الإسلامية التي يغلب عليها التقييم العاطفي ويغيب عنها المنطق العقلي.

وفي هذا الصدد، يمكن للمرء أن يرصد بداية قوة نشاط جماعة الإخوان في تونس عند أواخر سبعينات ومنتصف ثمانينات القرن الماضي، من خلال محاولاتهم التسرب إلى نوادي السينما التي يسيطر عليها اليسار. وعندما لم يتمكنوا من ذلك، بدأوا بنشاطات موازية أهمها عرض أفلام دينية بغية استقطاب الشبان.

العشوائية والتخبط وغياب الوعي الممنهج في البرمجة التلفزيونية، كلها أمور أوقعت الحكومات العربية في مشاكل العنف والتطرف التي نعاني منها اليوم، هذا بالإضافة إلى فئة المندسين وغير المندسين من الإسلاميين في المؤسسات الحكومية.

إذا كنا نريد حقا محاصرة التطرف وتجفيف منابع الإرهاب في البرامج التلفزيونية كما نردد دائما في الندوات المتخصصة، وإذا كنا نعترف بهول ما سببته أعمال تلفزيونية سابقة لوّثت العقول بأوهام الجهاد، فإن المنطق يملي علينا أن نعالج الأمور من خلال التلفزيون نفسه، وننقي التلفزيون الرمضاني وغير الرمضاني من سموم التطرف، وذلك كي لا تكون المقاربات موسمية.

سوق الدراما الرمضانية -كغيرها من الأسواق- تشتغل على الدارج والمرغوب فيه، ويبدو واضحا أنها تفاعلت مع قرارات سياسية وهيّأت نفسها هذا العام لشعار المرحلة الأخطر وهو: مكافحة التطرف ومحاربة الإرهاب.

ليس الأمر استهتارا بالجهود الحقيقية التي تبذلها الحكومات، ولا استخفافا بقوة وتطور الدراما العربية في السنوات الأخيرة، لكن المنطق النفعي على المنظورين القريب والبعيد، يملي على الماكنة الإنتاجية للدراما التلفزيونية أن تستثمر في “محاربة الإرهاب” من خلال أعمال ذات قيمة فنية عالية كي تمتلك قوة الفاعلية والتأثير التي امتلكتها أعمال درامية سابقة كان قد استثمر فيها الإسلام السياسي سواء عن سابق إصرار أو أن استقبالها كان من الباب الخاطئ.

ويحضر الإرهاب والتطرف في دراما رمضان هذا العام من خلال عدد من الأعمال الدرامية التي ستعرض على الشاشات العربية، ورغم اختيارها للإرهاب والتطرف، إلا أن المعالجة التي تقدمها تختلف من عمل إلى آخر كما يقول ويزعم المسوقون لها.

وينبغي لهذه الأعمال أن تتنوع بين التاريخية والاجتماعية والإنسانية و”الأكشن”، وذلك لتوضيح كيفية انتشار الفكر الإرهابي، وكيف يستغل المشاعر الدينية أو الحاجة المادية لدى البعض لتحويلهم إلى قتلة.

شهر رمضان يعتمد أساسا على روح الاجتماع بين أفراد العائلة وتشاركهم للفرجة التلفزيونية التي من شأنها أن تصنع نوعا من النقاش التفاعلي بين الأهالي والأبناء.

وكثيرا ما يتابع الزبائن في المقاهي مسلسلا في رمضان، فما بالك إن كان المسلسل يطرح قضية التطرف والإرهاب.. لعل في ذلك دراما من نوع آخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى