ما بعد الانتخابات النيابية اللبنانية.. كأن شيئاً لم يكن
لم يكن التحضير للانتخابات النيابية الأخيرة عادياً، لناحية المواجهة بين الأطراف السياسية اللبنانية، إذ لامست الخطابات الانتخابية حدوداً أمكن معها الحديث عن انقسام عمودي يقضي على أي أمل بتغيير الصورة القاتمة للمستقبل في لبنان. وإذا كان متوقعاً، كما في انتخابات 2005 أو 2011، أن نشهد خطابات تستهدف سلاح المقاومة وشرعية وجودها، إذ كان بند الاستراتيجية الدفاعية وتسليم السلاح للدولة اللبنانية، يُدرج ضمن لائحة من البنود المتعلقة بإصلاح النظام اللبناني أو تحسين موقع طائفة هنا أو حزب هناك، فإن المعركة الانتخابية الحالية قد شهدت تركيزاً على شرعية السلاح ضمن منطق واضح متوافق مع رؤية أميركية وعربية وإسرائيلية تفترض تحرير لبنان من سطوة سلاح غير شرعي. وإذا كان من غير المنطقي الادعاء أن الانتخابات السابقة كانت تحصل وفق منطق صراع لبناني داخلي، فإن المعركة الحالية قد شهدت تضخيماً لمنسوب التدخل الخارجي فيها كتعبير عن مصيرية نتائجها، وفق منظور يربط بين هذه النتائج وعملية إعادة ترسيم موازين القوى في الإقليم.
ولأن المرحلة الحالية قد شهدت عدداً من التأثيرات الجوهرية في ميزان القوى اللبنانية، انطلاقاً من الحراك الشعبي في 17 تشرين، مروراً بالانهيار الاقتصادي الذي أثقل كاهل المجتمع اللبناني، وصولاً إلى اعتكاف أقوى زعيم سني، رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عن خوض الانتخابات النيابية، بالإضافة إلى بروز مشروع خارجي واضح المعالم بإدارة مباشرة من السفيرة الأميركية دوروثي شيا والسفير السعودي وليد البخاري، أخذت التجاذبات الانتخابية قبل 15 أيار/مايو منحنى عنفياً على المستوى اللفظي على الأقل، بما أوحى بمصيرية نتائج الانتخابات، ودورها المفصلي في تحديد هوية لبنان.
وإذا كانت السياسة اللبنانية معتادة على التدخلات الخارجية في تفاصيلها منذ نشأة الكيان، فإن المفارقة في مرحلة التجاذب الانتخابي برزت عبر الإدارة الخارجية المباشرة، وعدم الاعتماد على الأطراف السياسية المحلية أو الحرص على البقاء في الظل. فتحركات السفيرة الأميركية شيا، وإصرار السفير السعودي وليد البخاري، فور عودته من المملكة بعد ما عُرف بالأزمة الخليجية مع لبنان، على الوجود الميداني في الدوائر التي تشكل ساحة لمواجهة لوائح المقاومة، أوحت بعدم القدرة على تحمل أخطاء قد تقع بها الأطراف الداخلية الحليفة في عملية مواجهة محور المقاومة. في هذا الإطار، بدا واضحاً أن القوى المعروفة بقوى 14 آذار، بالإضافة إلى بعض المستقلين وبعض مرشحي الجمعيات غير الحكومية المعروفين بالتغييريين، قد انتظموا في تشكيل معقد يشرف على تفاصيل تحركاته وتصريحاته مركز عمليات ذو أهداف محددة.
على هذه الأسس، تم خوض الانتخابات النيابية وفق منطق يوحي بتغيير وجه لبنان، أو على الأقل تحجيم حلفاء المقاومة، إذ تمت الاستعانة بكل الوسائل الممكنة، الشرعية وغير الشرعية، من أجل تحقيق أكثرية يمكن من خلالها إعلان رفض لبنان لمشروع المقاومة وسلاحها. إلا أن النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع أفضت إلى ما لم يوافق تلك التوجهات، إذ فاز الثنائي الوطني بكل مقاعد الطائفة الشيعية بنسبة أصوات عالية، واستطاع حلفاؤهم أن يحصدوا عدداً من المقاعد التي تضمن بقاء خيار توجهاتهم في مقدمة المشهد السياسي اللبناني.
وإذا كانت موازين القوى في البرلمان الجديد تؤكد عدم حصول أي طرف على الأكثرية الصريحة، فإن وصول مجموعة من المستقلين والتغييريين الذين وصل عددهم إلى 32 نائباً إلى قبة البرلمان، أوحت بحصول انقلاب على التوازن السياسي الذي حكم لبنان منذ عام 1992. وإذا تغاضينا عن أن عدداً من هؤلاء المستقلين أو التغييريين قد انبثق من صلب الأطراف التقليدية، فقد تم التسويق لإظهارهم على أنهم كتلة تشكل دلالة على انقلاب اللبنانيين على تلك الخيارات المقاومة. فوفق منطق المشروع السياسي للقوى المناهضة للمقاومة، تم تفسير كل تغيير أفرزته الانتخابات النيابية في إطار الرفض الشعبي للسلاح من دون إيلاء أي أهمية لحقيقة أن القرار بالتصويت لغير الاتجاهات التقليدية أو الورقة البيضاء يمكن تفسيره كرد فعل قوامه محاولة تغيير سلطة تتحمل مسؤولية سياسات أدت إلى أزمات معيشية صعبة، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي سياسي مرتبط بالمقاومة وسلاحها.
استطاعت قوى 14 آذار وبعض المستقلين والتغييريين أن يزرعوا في وعي جزء من اللبنانيين أفكاراً تتعلق بربط بناء الدولة ومحاربة الفساد بضرورة إسقاط حزب الله وحلفائه، عبر مقاربة تربط تراكمات فساد ومحاصصة طغت أكثر من ثلاثة عقود، بسلاح المقاومة ومشروعها السياسي في حين غاب عن أجندتهم السياسية أي مشروع لبناء دولة حديثة عبر إلغاء الطائفية السياسية وتبني قانون انتخاب عصري، أو ضرورة تفعيل القضاء ومحاسبة الفاسدين.
من ناحية أخرى، لم ينجح بعض التغييريين وأكثر المستقلين في تبني خطاب سياسي متحرر من معجم مصطلحات الأطراف السياسية التقليدية، وفشلوا في التحرر من المحرمات التي كرسها النظام السياسي بعد اتفاق الطائف. فالمحافظة على حقوق الطائفة والالتزام بالاصطفاف السياسي التقليدي في المواضيع المهمة والأساسية شكل علامة فارقة لهؤلاء. وباستثناء عدد محدود منهم يمكن القول إن صفة التغييريين أو المستقلين التي يعتمدونها في التعريف عن كيانهم لا تتعدى أطر الإيحاء بوجود خيار ثالث مستقل من حيث الشكل، من دون أي قدرة على تأكيد وجودهم كمشروع حقيقي يمكن من خلاله التحرر من قيود النظام القائم نحو بناء دولة حديثة.
وعليه، فإذا كان من الممكن القول إن خارطة التوازنات السياسية تحت قبة البرلمان الجديد قد تغيرت وأضحت أكثر تنوعاً، إذ تجعل التفاعلات السياسية الضرورية لانتخاب رئيس مجلس النواب أو تسمية رئيس للحكومة أكثر تعقيداً، فإن هذه الخلاصة لا تخرج عن إطار الملاحظة الشكلية التي لن تُترجم عملياً كانقلاب جذري على مرتكزات النظام السياسي اللبناني. فالأطراف السياسية التقليدية لم تجد في وصول التغييريين إلى البرلمان خطراً يهدد وجودها، وإنما دعتهم إلى تشكيل كتلة يمكن من خلالها المشاركة في السلطة.
فمما يظهر، لن تختلف طريقة مقاربة الاستحقاقات الدستورية كاختيار رئيس الجمهورية المقبل أو تسمية رئيس حكومة ما بعد الانتخابات. فالآليات التقليدية المعتمدة لم تأخذ بعين الاعتبار حصول أي تغيير يُلزم تبني آلية مختلفة عن ما كان سائداً في السابق، إذ أعلن رئيس الجمهورية فتح بازار التداولات على تسمية رئيس الحكومة عبر آليته المفضلة التي تلزم الاتفاق على اسم المرشح قبل الخوض في الاستشارات. كما أن ما بدأ يرشح عن كيفية البحث عن رئيس للجمهورية لا يوحي بحصول تغيير في الآلية المُعتمدة لاختياره، إذ ما زالت التوازنات الدولية تتقاطع مع التوازنات الداخلية في عملية اختياره من دون الرجوع إلى التوازنات بين الكتل البرلمانية.
وعليه، يمكن القول إن العناوين التي طغت على الساحتين السياسية والشعبية قبل الانتخابات البرلمانية اللبنانية، والتي أوحت لدى طرف معين بتغيير جذري أقرب إلى الثورة على المفاهيم السائدة والحاكمة للعملية السياسية في لبنان، لن تجد في المرحلة المقبلة أي قدرة على أن تُترجم عملياً داخل بنية النظام السياسي اللبناني. ولذلك، يظهر الواقع الحالي انعدام أثر الانتخابات النيابية بما يمكن وصفه بـ “كأن شيئاً لم يكن”.
الميادين نت