ما بين الحديث عن “ربيع” إيراني وتجربة احتجاجات 2009(عامر راشد)
عامر راشد
فتح إضراب تجار "بازار" طهران، وما تبعها من مظاهرات وسط العاصمة ومدن أخرى على خلفية تدهور قيمة العملة الإيرانية، الباب واسعاً أمام تكهنات بقرب حلول "ربيع" إيراني.
ولم يتردد البعض في توقع موعد له لا يتعدى ثلاثة شهور، إلا أن رفع سقف التوقعات في المدى المنظور لا يبدو ذا صلة بقراءة واقعية للمعادلة الداخلية في إيران، التي مازالت ممسوكة بقوة من المؤسسة الدينية الحاكمة، رغم اتساع صفوف وحجم المعارضة للرئيس محمود أحمدي نجاد المدعوم من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.
إن الحديث عن "ربيع" إيراني، أو "ربيع" كما يحلو للبعض تسميته، لا يستقيم دون امتلاك إجابات عن الأسئلة التي طرحتها احتجاجات 2009 على نتائج الانتخابات الرئاسية، التي فاز فيها الرئيس نجاد بولاية ثانية وشكك المعارضون في نزاهتها.
فرغم نجاح السلطات الإيرانية عام 2009 في قمع المظاهرات وتنفيس تأثيرات التدخلات الخارجية، ظلت هناك أسئلة محيرة حول أسباب تفجر الأزمة بتلك الشدة والسرعة والاتساع، وحجم القوى المحركة لها، وامتداداتها في صفوف النخبة الحاكمة، والآثار المستقبلية المتوقعة على بنية النظام السياسي الإيراني القائمة منذ الثورة الإيرانية عام 1979.
وكانت التقديرات حينها تفيد بأن الإجابة ربما تحتاج إلى سنوات، حتى يكتمل الفرز تماماً بين المعسكر الذي أيد نجاد والمعسكر الذي أيد المرشحين الخاسرين في الانتخابات وأبرزهم مير موسوي، وحتى تنجلي الحدود التي سيذهب إليها، في التحدي، المرشحون الخاسرون، بصحبة من دعمهم من أحزاب وشخصيات سياسية ومرجعيات دينية، وأن تتضح مقدرة النظام السياسي على استيعاب أو مواجهة من لم يمتثلوا مباشرة لتوجيهات المرشد الأعلى، التي دعا فيها المحتجين لتهدئة الشارع، والتسليم بفوز الرئيس نجاد، وتقديم الطعون لمجلس صيانة الدستور ليبت فيها.
واستندت التقديرات إلى كون تطورات الأزمة بعد خطاب خامنئي الحاسم في رفض ادعاءات التزوير، تجاوزت حيثية الاحتجاج على نتائج الانتخابات، نحو محاولة إسقاط الحصانة عن مؤسسات الدولة التنفيذية والقضائية والمؤسسة الدينية، وهناك عدة أمثلة صارخة على ذلك:
أولاً: بإعلان المرشد الأعلى أن الرئيس نجاد هو الأقرب إلى سياساته الداخلية والخارجية، إن مواصلة المعارضة الهجوم على نجاد يعد هجوماً على مرجعية المرشد الأعلى.
ثانياً: الفتوى التي أصدرها المرجع الديني الخارج عن المؤسسة الرسمية الدينية آية الله العظمى علي حسين منتظري، وحرَّم فيها منع المظاهرات بالقوة، نظر إليها كـ(تحدٍ سافر) لمرجعية المرشد الأعلى خامنئي، وطعن (بمبدأ ولاية الفقيه)، بيّد أن منتظري ترك فراغاً كبيراً وراءه بعد أن غيبه الموت في كانون أول (ديسمبر) 2009.
ثالثاً: تشكيك الرئيس السابق محمد خاتمي بحيادية ونزاهة مجلس صيانة الدستور، يرقى للتشكيك بدستورية النظام السياسي القائم ككل، ويرفض حل النزاع بالوسائل القانونية والدستورية.
رابعاً: انضمام رئيس مجلس الشورى (البرلمان) علي لاريجاني للمشككين في صحة نتائج الانتخابات وصحة إجراءاتها، وتوجيه انتقادات شديدة اللهجة إلى موقف مجلس صيانة الدستور من هذه المسألة، في مقالة نشرتها صحيفة "جمهوري إسلامي" المحافظة، قال فيها "إن شريحة كبيرة من الشعب ترى أن نتائج الانتخابات مخالفة لما أعلن رسمياً"، واتهم بعض أعضاء المجلس بدعم الرئيس نجاد من دون ذكر أسمائهم.
خامساً: خوض المرشح الرئيسي الخاسر في الانتخابات مير حسين موسوي مواجهة مفتوحة مع النظام، وحديثه عن إمكانية حدوث صدع بين المجتمع والقوات المسلحة في البلاد.
سادساً: دعوة رئيس اللجنة القضائية في مجلس الشورى علي شاهرخي إلى مقاضاة موسوي بتهم مناهضته لمصالح البلاد ونظام الحكم الإسلامي.
سابعاً: تردد "مجلس صيانة الدستور" في إعلان موقفه، قبل أن يقرر في النهاية استبعاد أي إمكانية لإلغاء نتائج الانتخابات، وإقراره أن المخالفات التي حصلت "لا تؤدي إلى إعادة النظر في النتائج".
لكن الأجوبة لم تكتمل بعد، وإن كانت في ظاهرها أقرب إلى نجاح النظام في استيعاب الأزمة خلال السنوات الماضية، فالمؤسسة الدينية بقيت موحدة خلف مرجعية المرشد الأعلى، وحافظت مؤسسات الجيش والأمن والحرس الثوري (الباسيج) على ولائها المطلق للمرشد الأعلى وللحكومة، ولم يسجل أي اختراق لهما من المحتجين، وخرج "مجمع تشخيص مصلحة النظام"، الذي يرأسه الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رافسنجاني، عن صمته، وأيد ما جاء في خطاب المرشد الأعلى للجمهورية ووصفه بـ(الواضح والوحدوي). وفشلت القوى المحركة للاحتجاجات في تعميم المظاهرات على المدن الإيرانية الكبرى والأرياف، أو ضم فئات اجتماعية جديدة لها من خارج طبقة أبناء العائلات البرجوازية في العاصمة طهران، المتضررة تاريخياً من الثورة الإسلامية في إيران، بفقدانها لامتيازاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها قبل قيام الثورة في عهد نظام الشاه، والتي عاد الرئيس محمود نجاد وفككها في السنوات الأربعة الأخيرة بدعم من المرشد الأعلى، بعد أن كانت قد انتعشت مجدداً في ظل رئاستي رافسنجاني وخاتمي تحت عباءات فئات ذات مراكز مهمة في النظام والمؤسسة الدينية، تلاقت مصالحها التي حصلت عليها مع مصالح الطبقة البرجوازية التقليدية الإيرانية.
واستطاع المرشد الأعلى خامنئي أن يحافظ على علاقة المساكنة بين الرئيس نجاد وبين معارضيه داخل بنية مؤسسات النظام ضمن معادلة التوازنات القديمة، حيث بقي رافسنجاني على رأس "مجمع تشخيص مصلحة النظام"، وبقي علي لاريجاني رئيساً لمجلس الشورى. غير أن المساكنة لم تمنع نجاد من السعي إلى تفكيك مراكز القوى والنفوذ لمعارضيه في رؤيته السياسية والاقتصادية، وفي المقدمة تفكيك مراكز نفوذ تيار رافسنجاني المؤثر سياسياً ومادياً، مع المحافظة على دور لرافسنجاني في حدود (منصب شرف دون صلاحيات) كمرحلة انتقالية مازالت قائمة، وكذلك بالنسبة لرئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، لإبقاء الصراعات تحت سقف الولاء للجمهورية الإسلامية، رغم أن أزمة الانتخابات الرئاسية أثبتت هشاشة وخطورة علاقة المساكنة، في الشكل الذي كانت عليه، على آليات عمل النظام السياسي الإيراني.
ومن المهم الوقوف مطولاً أمام المفارقات التي حفلت بها الانتخابات الرئاسية الإيرانية، فالمعركة جرت بين محمود نجاد ومير موسوي تحت سقف نظام الحكم ومرجعية المرشد الأعلى، وانتهت بطعن موسوي بشرعية مؤسسات النظام، وتجاهله لقرار المرشد الأعلى، بينما عجِز (التيار الإصلاحي) عن تسمية مرشح له للانتخابات الرئاسية يتمتع بمصداقية شعبية، يستطيع الوقوف على أرضيتها بثبات أمام نجاد، وما أنقذ (التيار الإصلاحي) هو إجادته توظف الفوارق بين نجاد وموسوي وتجيير شعبية الأخير لصالح برنامج (التيار الإصلاحي) المناقض لبرنامج موسوي.
وعليه، إن دلالات تلك المفارقات لا تعطي لـ (التيار الإصلاحي) قوة تهدد استقرار الحكم، إنما تسلط الضوء على تناقضات ظهرت بين صفوف نخب السلطة غير مضبوطة بآليات معالجة فاعلة، وتمت التغطية عليها على نحو خاطئ بالمساكنة الإجبارية.
ولذلك لا يستقيم الحديث عن قرب "ربيع" إيراني قبل حدوث تطورات سلبية نوعية في العلاقة الداخلية بين النخب الحاكمة تمس علاقة المعارضين في الحكم بمظلة مرجعية المرشد الأعلى، بما هو القائد الفعلي للبلاد، أو امتلاك المعارضة حيثية شعبية حقيقية. وكل هذا مستبعد في المدى المنظور، إذ أن نظام الحكم في إيران يمتلك تجربة غنية في كيفية التعامل مع الحصار الاقتصادي، وطوّر خلال السنوات الماضية قاعدة اقتصادية صناعية فريدة من نوعها في المنطقة، فضلاً عن تمتع الاقتصاد الإيراني بميزة التنوع والاكتفاء الذاتي في مجالات إستراتيجية عديدة.
ليس المقصود أن نقول: إن إيران خارج دائرة التغيير، بل المقصود؛ إن التغيير سيكون له نكهته الإيرانية الخاصة، وآلياته التي تحافظ على نظام الحكم تحت عباءة المرشد العام، إلى أن تبرز معادلة داخلية جديدة تشق فيها المعارضة عصا الطاعة، من الصعب التكهن بموعد حصولها بناء على المعادلة القائمة حالياً.
موقع أنباء موسكو الإلكتروني