ما دور «داعش» في ظل الحرب الاقتصادية الكبرى؟
تتكاثر التأويلات في تحديد أهداف وحدود الصراع الحالي في «الشرق الأوسط»، خصوصاً في ظل التطورات السريعة، لناحية دور اللاعبين وهويتهم وعددهم. بالأمس البعيد، كانت تتأجج الصراعات والحروب لأسباب مفهومة وواضحة، كتوسيع الجغرافيا أو زيادة الضرائب أو حتى لأسباب اجتماعية ضيقة خاصة بالعائلات الحاكمة. اليوم، تتعقد أسباب الصراع والمصالح بحيث يستحيل فك طلاسمها ان لم تدرس من زوايا عديدة. ويبقى العنوان الرئيسي لأي صراع هو المصالح الاقتصادية ابتداء، مع دخول لاحق لعوامل أخرى سياسية واجتماعية وجغرافية وغيرها لتعقد الصورة، وذلك لعجز هذه العوامل وحيدة عن أن تبدأ الصراع من دون الدافع الاقتصادي الذي يكتنز مصالح الدول المستعدة للاستثمار في الصراع.
فإذا نظرنا من الجانب الاقتصادي السياسي إلى ما يجري في المنطقة، نلحظ ظاهرة دينامية تتحرك وتتوسع بطريقة فريدة، في طريقها إلى هدف تسعى إلى بلوغه. الكلام بالطبع، عن «داعش». «داعش» تتحرك وتضرب حيث الموارد المالية أو العسكرية أو الطبيعية كحقول النفط، في دير الزور والموصل وكركوك، ومعامل الكهرباء والسدود المنتجة لها، ومستودعات السلاح، وفروع البنوك المركزية حيث النقد. واللافت استطاعتها تشغيل وإدارة حقول النفط والغاز ومحطات الكهرباء، بما يتطلب من خبراء، وبيع إنتاجها، بما يتطلب من تحضيرات لوجستية وتسويقية، وتحصيل الأموال وتحريكها، بما يتطلب من تغطية مصرفية، خصوصاً لنقد المصارف المركزية المرقم، وكل ذلك في فترة قياسية قصيرة جداً. كل ما سبق يشير إلى أن «داعش» عصابة منظمة تعمل على شكل مقاول يبتغي الربح لشركاء مساهمين.
وما يقوي هذا الانطباع أيضاً طريقة بناء «داعش». في مراجعة للحرب الأميركية على العراق حتى 2003، تتمحور تكاليف الحكومة الأميركية في موازنة وزارة الدفاع، التي بلغت بحسب التقارير ألف مليار دولار، أضف إليها التعويضات التي تقدم بها العسكر والتي فاقت الألف مليار دولار هي أخرى والتي لا تدخل في ميزانيات وزارة الدفاع. ومن بركات المحافظين الجدد حينها خصخصة جزء كبير من العمليات في العراق، بحيث فاق عدد موظفي شركات الأمن الخاصة عدد العسكر النظامي بعشرين من المئة تقريباً. وفي ترجمة حسابية، يبلغ معاش العسكري الأميركي المباشر 10,000 دولار في الشهر، عدا تعويضاته ونقله وتسليحه. أما الشركات الأمنية، فكانت تدفع لمرتزقتها ضعف هذا المبلغ. وتدفع لـ«داعش» أقل من ألف دولار شهرياً للمقاتل والتعويض حوريات في الجنة والكومسيون كل ما تقع عليه أيديهم من غنائم وسبي نساء. أما السلاح، فمعظمه مما اتفق مع الجيوش في سوريا والعراق على تركه. وإلا ما معنى ان يترك أي جيش منسحب سلاحاً صالحاً وراءه من دون تفجيره؟ كما يشكل الوعاء الديني «بروتوكول الامرة» إذ يكفي ان تنقل إلى المقاتلين وأمرائهم أمراً ما في كليشيه ديني فيقبلونه وينفذونه بغض النظر ان تطابق مع الدين أم لا. عمليا، تشكل «داعش» أرخص جيش مقاول في العالم بمردود مرتفع على الاستثمار.
يتوزع الممولون لـ«داعش»، أي أصحاب الأسهم والحصص فيها، بين تركيا وقطر والخليج عموماً، وهؤلاء يشكلون المدراء في إدارة التنظيم، وعلى رأس الجميع يأتي الأميركي. وهنا تجدر الإشارة إلى ان ظاهرة «داعش» هي باكورة سبعين عاماً من الأبحاث النفسية والاجتماعية الأميركية التي كان مسرحها أوروبا في الخمسينيات وصولاً إلى السجون الأميركية في عصرنا الحاضر، في غوانتانامو وغيرها. ولكل من المساهمين مصالحه الخاصة في ظل المصلحة الاستراتيجية الأميركية العامة، وتتمحور كلها حول قطاع الطاقة. فلتركيا حلم خاص في جعل أراضيها عقدة أنابيب النفط والغاز من الشرق إلى أوروبا. ولقطر مصلحة في إيصال غازها إلى المتوسط، فأوروبا بعيداً عن مضيق هرمز وبعيداً عن ابتزاز المملكة العربية السعودية في ظل حكم آل سعود. أما بعض الممولين السعوديين، فمصلحتهم ضمان حصتهم إذا وصل التقسيم إلى المملكة العربية السعودية. ولكي يستطيع كل هؤلاء تحقيق مصالحهم، فلا بد ان تكون لهم كلمة على أرض الواقع من خلال «داعش».
أما أميركا، فمشكلتها جذرية ومتشعبة. التحدي الرئيسي الذي يواجه الاقتصاد الأميركي هو موضوع إبقاء الطلب على الدولار للحفاظ على قيمته بعد فك ارتباطه بالذهب في عهد الرئيس نيكسون في العام 1971، بعد انهيار اتفاق «البريتون وودز». قاد سعي أميركا لإبقاء الطلب، ولو وهميا، على الدولار الوزير كيسنجر إلى المملكة العربية السعودية لإقناع العائلة المالكة بتسعير نفطها بالدولار فقط، وباستثمار الفائض من بيع البترول في الاقتصاد الأميركي، وذلك مقابل حماية أميركية للسعودية بما يشمل التسليح. وافقت السعودية على الاقتراح الأميركي وجرى تطبيقه بالكامل في العام 1974 وتوسع موضوع البيع بالدولار في العام 1975 ليشمل جميع دول «أوبيك»، وولد بذلك البترودولار. وحققت أميركا بهذا الاتفاق مصلحة هائلة في إبقاء الطلب على الدولار مقابل شراء دول العالم للطاقة، وفي خلق طلب على سندات الخزينة الأميركية من خلال استثمار فوائض بيع البترول، وأخيراً إمكانية شراء البترول بعملة تطبعها أميركا بالمجان. أما أهمية السعودية الإضافية للاقتصاد الأميركي فتتمثل بفائض قدرة إنتاج النفط لديها والبالغ مليوني برميل يوميا تقريبا وهو الأكبر في العالم. وهذا الفائض يشكل صمام الأمان في إدارة سوق النفط إذا احتاجت أميركا لضرب سعر البرميل لأي سبب أو لابتزاز الدول الأخرى المنتجة للنفط.
ويشكل إنتاج روسيا للغاز وبيعه إلى أوروبا تحديا آخر للبترودولار إذا قررت روسيا بيع الغاز بعملة غير الدولار، وهذه تبدو مسألة وقت فقط، في ظل اتفاقيات دول «البريكس» والدول المشاركة في مؤتمر شنغهاي. ولضرب هذا المسعى، تسعى الولايات المتحدة إلى تأمين خط غاز قطري موازٍ للخط الروسي إلى أوروبا، لضرب احتكار روسيا في تسعير الغاز وإجبارها على الالتزام بالبترودولار. وخط سير هذه الأنابيب يكون، إما من قطر عبر السعودية فالأردن فإسرائيل ثم بحرا، وهو الأكثر كلفة، أو عبر السعودية فالعراق فسوريا فتركيا من دون المرور في مناطق الأكراد.
وصل المقاول «داعش» إلى الموصل، فانسحب الجيش العراقي بخطوة ذكية من الأنبار، بعكس الافتراضات الأميركية لما تشكله هذه المنـطقة من أهمية كمعبر لأنابيب الغاز المستقبلية، لتشكيل سد حول بغداد والمدن الأخرى ولإيصال «داعش» إلى الحدود السعودية أو الجائزة الكبرى. وقعت الولايات المتحدى في الفخ، فباتت «داعش» في منطقة محصورة، ولم يبق من منفذ لها سوى إلى كردستان أو الأردن أو السعودية. فقام المدير التركي في «داعش» بمغامرة الدخول إلى مناطق الأكراد وكركوك، بعكس ما تقتضيه المصلحة الأميركية، ما اضطر أميركا للتدخل الفوري وضرب جبهة «داعش» مع الأكراد. أما بالنسبة للسعودية، أي مقتل البترودولار والاقتصاد الأميركي، وفي ظل الحديث عن مشاكل التوريث فيها، ووجود بيئة حاضـنة كـبيرة لـ«داعش» في مجتمعها، ووصول «داعش» إلى حدودها، ومصالح المدراء والمساهمين المتفلتين من السيطرة الأميركية، فأميركا تجد نفسها مضطرة للإسراع والنزول على الأرض واستلام دفة القيادة في المنطقة. إذ انها تسعى إلى تهذيب «داعش» بضربها لا بالقضاء عليها. ثم استعمالها في السيطرة المضبوطة على السعودية، في حال اضطرارها، وتحضيرها للمعركة الكبرى ضد إيران… هل ستنجح؟ الأيام كفيلة بالبرهان.
صحيفة السفير اللبنانية