ما لا يُدرك النساء في حياة فرانز كافكا
الباحثون عن الذهب جحافل، ولكن، هل هذا كفيل بإثبات وجود الذهب؟ هل من يبحث عن الذهب يجده؟ ما الذي يجعل عروق الذهب بهذه الندرة الغامضة؟ فيما يشبه هذه الأسئلة المحيرة يُحلِّق بنا لويس غروس الأستاذ الجامعي والصحافي والكاتب الأرجنتيني في دراسته المهمة التي كتبها عن فرانز كافكا ونشرها في كتابه المهم “ما لا يُدرك”. ترجمته إلى العربية الدكتورة المغربية زينب بنياية.
يذهب لويس غروس بنا إلى تبنّي فكرة تقول بأن فرانز كافكا لم يتمكن من إنشاء روابط مع الآخر، ولا مع الزمن الذي عاش فيه، ولا مع الحياة بوجه عام. والعلاقات التي أقامها مع النساء كانت إشكالية إلى حد كبير، سواء على المستوى العاطفي أو الجسدي، وقد كان صعباً عليه، بوجه خاص، أن يصل إلى جوهر تلك الجمرة المتقدة في قلوب النساء والتي يُغلِّف لهيبها سهام عيونهن القاتلة. لذلك يقول لويس غروس: ركَّزتُ على النساء، تحديداً، في حياة فرانز كافكا لأنني رأيتُ فيهن صورة ممكنة لما لا يُدرك. واستعارة نموذجية لكل ما يسعى إليه بتعطش لا يُروى للمطلق.
فرانز كافكا لم يكن شخصاً عادياً، ألَّف نصوصاً ذات قيمة لا تُنكر، عشق، وعاش حياته بزخم كبير، وأحياناً كثيرة، عبَّر عن ذاته بموجة من الرسائل التي ضربت صخرة الحياة ضرباً عنيفاً موجعاً. هل يا تُرى فشل في مسعاه؟ هل يمكننا أن نحكم عليه، وقد أنتج ما أنتج من أعمال أدبيَّة مذهلة، بأنه فشل في اختبار الغوص في لجج بحر النساء والأدب والحياة؟
تدور دراسة لويس غروس حول فكرة جوهرية: لا شيء يُدرك بشكل مطلق، ولا حتى تلك الأشياء التي ننالها بسخاء في بادئ الأمر ونحتفظ بها لبعض الوقت. ما من هدف أبعد منالاً من الوصول إلى أقرب بلدة – كما يُلمح كافكا في إحدى استعاراته – يكفي أن نضع قدماً في شارع الوصول، لكي نتأكد من أنه مازال أمامنا بعض الطريق حتى نصل إلى أول البيت. وهل كل الدروب توصل المشَّاء إلى البيت؟ أم أن الدروب تأخذ المشَّاء بعيداً عن الحب وتحقيق الأحلام ومتعة العيش وسكينة النفس وراحة القلب. ولماذا شدَّ فرانز كافكا روحه من روحها بحثاً عن عروق الذهب الذي كان وجودها ومازال – على الأقل – أمراً مشكوكاً فيه.
قبل وفاة الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1924 – 1883) أمر في بنود وصيته صديقه ماكس برود أن يقوم بإتلاف مخطوطات حكاياته وقصصه ورواياته. ولكن القدر جعل الصديق يتريث في أمر إتلافها، فعاشت تلك المخطوطات وتحوّلت إلى كتب حيَّة ما تزال الأيدي الباحثة عن سكينة النفس الإنسانية تتناولها من جميع رفوف مكتبات العالم. تُرجمت إلى عشرات اللغات ومنها اللغة العربية حيث صدرت آخر ترجمات أعمال فرانز كافكا في ثلاثة كتب أنيقة عام 2014 عن دار العربي للنشر والتوزيع. نتيجة هذا الفعل الحميد من صديق وفيِّ استطاع العالم أن يعرف ما الذي يحويه ذلك النتاج الأدبي الضخم، الذي يكتمل باليوميات وعدة رسائل إلى صديقاته: ميلينا وفيليسي وغريتي. ونساء أخريات أقل تأثيراُ، كانت له علاقة بهن، على مرِّ حياته.
لا
ذات صباح، كان فرانز كافكا مع صديق يُطلان من نافذة بيته في براغ العاصمة التشيكية، من تلك النافذة المشرعة على ساحة المدينة العتيقة لمسقط رأسه، أشار إلى مدرسته القديمة حيث أنهى دراسته الثانوية، وإلى الجامعة التي درس بها الحقوق والمبنى الذي كانت توجد به مكتبة، ثمَّ بعد قليل، رسم بإصبعه في الهواء دائرة ليست بالكبيرة، وقال لرفيقه: هذه الحلقة الصغيرة تشمل كل حياتي.
يقول لويس غروس: قليلة جداً هي المناسبات التي ذهب كافكا فيها أبعد من هذا المنعطف المرتجف. هناك، داخل تلك الحدود، عاش أربعين سنة وأحد عشر شهراً، إلى أن مات بداء سلٍّ قاتل في مشفى في فيينا عاصمة النمسا. وفي المُجمل، رأى البحر في ثلاث مناسبات فقط، ظلَّ عازباً، وإن كانت تُنسب إليه علاقات عاطفية مع خمس نساء أو ست، أو سبع على أكثر تقدير، إذا ما أضفنا اسم المراهقة سلمى، ابنة مفتش البريد الذي ارتبط بها لوقت قصير. التزم بالزواج في ثلاث مناسبات، مرتين مع الموظفة البرلينية فيليسي باور ومرة مع السكرتيرة بنت براغ جولي ووهريزك. ولكن في اللحظة الأخيرة، وفي جميع الحالات، انسحب من المسرح مختاراً عذاب العزلة المغوي. صحيح أن كافكا، في أواخر أيامه – وبعد الحب المضطرب وشبه الأخوي، الذي عاشه مع ميلينا جاسينسكا – عاش ستة أشهر مع ديورا ديامنت وهي يهودية برلينية في التاسعة عشرة من العمر، كان ينوي الزواج بها، لكنَّ الأمر لم يتحقق، إذ أن موته المُبكر قد ربح الجولة.
على هامش محاولات التقرب هذه، كان يختلف كثيراً إلى بنات الهوى وخصوصاً في سني شبابه الأول – في اللغة اختلف إلى المكان؛ تردد – وتتجلى هذه المعلومة من خلال قراءة يومياته. إنَّ هذه العادة، التي تكاد تكون إدماناً لديه، قد خلقت له الكثير من الصراعات النفسية، والتي ارتبطت عنده بالدنس والخطيئة. ليسوا عادلين أولئك الذين يتصوَّرون كافكا ذاك المعذَّب والسوداويَّ دائماً. فقد عاش الرجل لحظات من الفرح والضحك والرغبات والمتعة. كان يمارس السباحة والرياضة والتجديف، كان يعمل، كان يتشمس عارياً في حديقة بيته أو بالقرب من النافذة، فقد كان مؤيداً لمذهب العري كفلسفة حياة.
يقول لويس غروس: كانت الفتيات عند فرانز كافكا، على ما يظهر، وسيلة شائقة للهرب من تأثير سلطوية الأب، ذاك القاسي والبغيض، هيرمان كافكا، الذي كان يحتقر موهبة ابنه الأدبية. فقد بحث الكاتب في العالم الأنثوي عن قوة موازنة للفحولة الأبوية المستبدة. إلا أن هذا الأب قد ساهم لاإرادياً في تشكيل نتاج أدبي وُظّف على الدوام في مواجهة القيود التي كانت الأقدار تفرضها عليه. كان كافكا يحسُّ دائماً بأنه وحيد، ومذنب من دون حتى أن يعرف ما هي أخطاؤه، مُنتظراً عقوبات رهيبة على ذنوب كان عليه في نهاية المطاف أن يرتكبها، ليبرّر لاحقاً، تلك السياط التي لا مفرَّ منها. إن نظرته إلى نفسه تشي بإحساس خذلان لا يخلو من التبجح. ويتجلى هذا الأمر أكثر عندما يقارن نفسه بالأشخاص الذين يُفترض أنهم واثقون وسعداء ومحققون لذواتهم.
بعد وفاة فرانز كافكا بثلاثة أيام نُشر في جريدة “ناردوني ليستي” نعيٌ له بتوقيع ميلينا جاسينسكا في السادس من يونيو/حزيران 1924 ولا يمكننا أن نسمّي هذا النص نعياً بحال من الأحوال أو نسميه إعلاناً في صفحة الوفيات. ذلك أن الأمر يتعلق بنصِّ أكثر انفعالية وتأثيراً بين كل النصوص التي كُتبت عن حياة كافكا وأعماله. ولأهمية النص نورده كاملاً كما كتبته صديقته أو حبيبته ميلينا والتي تعرَّف إليها في بداية سنة 1920 ونشأت بينهما علاقة حميمة، مترعة بالأمل والسعادة بداية، ولكنها أصبحت بائسة فيما بعد. دامت هذه العلاقة سنتين. وفي أول أيام الحرب العالمية الثانية أُلقي القبض على ميلينا في براغ، ثمَّ اغتالها النازيون في أحد معسكرات الاعتقال. تقول في نص نعي فرانز كافكا “لقد توفى قبل أمس، فرانز كافكا، كاتب ألماني كان يعيش في براغ، بمشفى كيراينغ كلوستيرنيبرغ قرب العاصمة النمساوية فيينا. قلَّة من الناس من يعرفونه هنا. لأنه كان رجلاً منعزلاً، رجلاً حكيماً يهاب الحياة. عانى لسنوات طويلة من مرض رئوي، مع أنه كان يتلقّى العلاج، إلا أنه كان يغذي مرضه متعمداً، ويشجعه نفسياً. وقد كتب ذات مرة في إحدى رسائله “عندما يعجز كلٌّ من القلب والروح عن تحمُّل العبء، تأخذ الرئتان النصف، وهكذا يصبح الحمل موزعاً بالتساوي”. وكان هذا هو الموقف الذي اتخذه من مرضه. كانت له حساسية تقارب الإعجاز، ونقاء أخلاقي صارم إلى أبعد حد.
ننن
إلا أنه جعل مرضه يتحمل عبء خوفه من الحياة. كان خجولاً، ولطيفاً وطيباً. لكنَّ الكتب التي كتبها كانت قاسية وموجعة، كان يرى عالماً مملوءاً بشياطين لا مرئية تحارب الأشخاص الضعفاء وتدمّرهم. كان صافي الذهن، أحكَم من أن يعيش، وأضعفَ من أن يقاوم. ولكن ضعفه هو ضعف أولئك الأشخاص المرهفين والنبلاء الذين يعجزون عن مواجهة الخوف وسوء الفهم وعدم التقدير والخداع. أولئك الأشخاص الذين يعترفون بضعفهم منذ البداية، ويستسلمون وهكذا يُخجلون الذي ينتصر عليهم. كان يفهم أقرانه بطريقة متاحة فقط لأولئك الذين يعيشون في عزلة، ويملكون إدراكاً حسياً دقيقاً للغاية، لدرجة أنهم يستطيعون قراءة رجل بكامله من خلال تعبيرات وجهه الخاطفة. كانت معرفته بالحياة واسعة وعميقة. كان هو في حدِّ ذاته عالماً واسعاً وعميقاً.
ألَّف أهمَّ كتب الأدب الألماني المعاصر، وهي كتب تُجسِّد، من دون تحيُّز، كفاح أجيال عصرنا. إنها مكتوبة بكل صدق، لذلك تبدو واقعية حتى عندما تتحدث بالرمز أو التعمية، وتبرز السخرية الجافة ونظرة رجل كان يرى العالم بوضوح من لم يستطع تحمُّله فاضطرَّ إلى أن يموت، لأنه لم يكن يريد أن القيام بتنازلات ولا أن يبحث له عن ملجأ في أوهام فكرية، كما يفعل آخرون، مهما كانت سامية. كتب فرانز كافكا “الوقاد” الذي يمثل الفصل الأول من رواية لم تنشر بعد، و”الحُكم” الذي يمثل صراع الأجيال و”المسخ” وهو أقوى كتاب في الأدب الألماني المعاصر، و”في مستوطنة العقاب”، فضلاً عن النصوص القصيرة “بتراشتونغ” و”طبيب القرية”. أما روايته الأخيرة “المحاكمة” فهي مكتملة منذ سنوات في مخطوطة، وجاهزة للنشر. إنها أحد تلك الكتب التي تملك وقعاً ساحقاً على القارئ، لدرجة أن أيّ تعليق عليها يظل سطحياً. تتمحور كتبه كلُّها حول إحساس بالذنب غير مبرّر، وحول الخوف الغامض من سوء الفهم. كان متوجِّساً إلى حدِّ كبير إنساناً وفناناً، يظلُّ متيقظاً حذراً في الوقت الذي يحسُّ فيه الآخرون، الصُّمُ، بالاطمئنان.
مهما كان الدافع الذي حدا ميلينا جاسينسكا كي تكون الحادية في قافلة رحيل صديقها، ومن ثمَّ كتابة نصّ النعي هذا، والذي ينبض بالحياة، وكان هذا الحداء سيُعجب صاحبه فرانز كافكا بكل تأكيد، وهو ليس نعياً على كل حال، بل نستطيع القول بأنه إعْلان حياة، فقد ألقت حبة بذار في الأرض اسمها فرانز كافكا، والتي ستنمو وتصبح شجرة باسقة، صحيح هي في مطرح بعيدة عن الغابة، تنفرد هكذا في وحدتها، ولكنها مرئية من بعيد ترشد العابرين للاستراحة في ظلٍّ وارف ظليل.