ما هو الشعر ؟!
سئلت مرة : ما هو الشعر ؟ و لم أجب يومئذ بسبب صعوبة السؤال ، و بالتالي صعوبة الجواب … لم أعد أذكر جيدا .. إلا حين أخلو إلى نفسي طويلا ، و ها أنذا أجدد المحاولة معكم فما عساني أقول ؟
الشعر ليس هو اللغة التي نستخدمها حين نبدع الشعر ، و ليس هو أيضا كما يقول بعضهم أسلوب خاص في اللغة ،فاللغة مهما تنوعت أساليبها تبقى مجرد وسيلة لا الغاية ذاتها ،كأن أتنفس مثلا فأقول : تنفست ..غير أن قولي هذا ليس هو النفس ، أو الهواء الذي خرج و دخل و كأنني أقول : إن الشعر ليس هو التعبير اللغوي عن الحدث و إنما هو الحدث نفسه . و لكن كيف تغدو اللغة هي الحدث نفسه ؟ فإذا إحترقت يدي مثلا أصرخ من الألم غير أنني لا اصرخ حين أقرأ عبارة شعرية عن احتراق يدي فكيف نحل المعضلة ؟
بقول الروائي التشكيلي ” ميلان كونديرا” حول هذا الموضوع : (( إن الشعر مسرح يغدو فيه كل ما نؤكده حقيقة ، فإذا قال الشاعر أمس مثلا : ( الحياة عبث مثل دمعة ) ثم قال اليوم: (الحياة مرحة مثل الضحكة ) يكون قوله في المرتين على حق إذ ليس على الشاعر أن يثبت شيئا ، فالإثبات الوحيد يكمن في كثافة الإحساس)).
راقبوا هذا التعبير جيدا (( كثافة الإحساس)) التي يلخص بها كونديرا قصده في هذه الكثافة يكمن الشعر، كما في هذا المقطع من قصيدة للشاعر عبد القادر الحصني يصف فيها الصباح :
((رشيق قوام الصباح/ و عباد شمس / و أشقر/ أفقت على خطوة فوق وجه المياه / و قد حال لون النجوم إلى فضة / و الضباب يحاول تبديل أشكاله في الطيور/ لكي أتذكر فيه الملائكة الطيبين / و لكنني لم أكن أتذكر/..)) هنا يجب أن نركز إنتباهنا على الجملة الأخيرة : و لكنني لم أكن أتذكر .. كي نسأل أنفسنا : ما هو الشيء الذي لم يتذكره الشاعر ، فنجد أن الملائكة الطيبين ، و الضباب ، و الطيور ، و عباد الشمس ، كل هذه الصور لم يعد يتذكرها الشاعر حيال إطلالة الصباح ، هذه هي كثافة الإحساس المطلوبة عبر مجموعة الصور البيانية التي تنقل رعشة الإحساس بالصباح الجميل .
و أذكر أنا مرة إنني رأيت رجلا يرشق وجهه و هو يشهق بماء نبع ماء بارد في يوم حار فأخذني المشهد و حاولت بالشعر أن أنقل إحساسي فإذا بي أختم وصفي بهذه العبارات :
(( كيف أصنع مثلك يا ماء؟ / ها أنذا أصف المشهد الأن / كل التفاصيل / كل زوايا التحرك / كل فنون البيان / و كل صفوف البديع و لكنني حين أصغيت للوصف / لم أستمع للهاث و لا لشهيق / و لم أرتعش مثله من صقيع ..)) معترفا بعجز اللغة عن نقل المشهد بأكمله ..
و لعل خير ما يقال في هذه المسألة هو أن خصوصية الشعر عن النثر مثلا تتمثل في أنه يعبر عن حالة نفسية فكرية معقدة يختص بها الشاعر وحده و لعل هذا ما يميز مثلا المتنبي عن أبي العلاء المعري مع أن كليهما مغرمان بالحكمة ، و حين ينجح شاعر ما في هذا التفرد و أن لا أحد يشاركه في طرائق نظرته للحياة و التعبير عنها بأسلوب يتميز به حتى ليكاد أحدنا يعرف قائل القصيدة من دون أن يكون عارفا لها من قبل عندئذ فقط يصبح أن نسميه شاعرا…
و لعل أفضل ما نقوله في ختام حديثنا هو ما قاله ذات يوم الكاتب الشاعر الفرنسي “جان كوكتو” : (( إن الشعر ضرورة … و لكن ليتني أعرف لماذا ؟ و الجواب كما يبدو على هذا السؤال غير ضروري كذلك …))