ما هي النّبوءة المُتشائمة التي تجنّب العاهل السعودي الحديث عنها في خِطابه القصير جدًّا؟
ليس المملكة العربيّة السعوديّة هي الوحيدة التي ستُواجه ظروفًا صعبةً في الأيّام المُقبلة، مِثلما تنبّأ وحذّر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز في خِطابه الذي ألقاه مساء الخميس في حديثه عن أخطار فيروس كورونا، وإنّما جميع دول الخليج والبُلدان العربيّة الأخرى أيضًا، فهذا الفيروس الوبائي يُمكن تصنيفه في خانة أسلحة الدّمار الشامل، ونتائجه الخطيرة مفتوحة على كُل الاحتمالات.
خطاب العاهل السعودي الذي لم تَزِد مدّته أكثر من خمس دقائق، ولم يتضمّن أي جديد باستِثناء لهجته التشاؤميّة المُستقبليّة، فلم يتطرّق إلى حرب النفط التي تخوضها بلاده حاليًّا ضِد روسيا وأدّت إلى انخِفاض الأسعار إلى أقل من 25 دولارًا، ولم يأتِ على سيرة الاعتِقالات التي تردّد أنّها شَمِلَت 20 أميرًا على رأسهم شقيقه الأصغر أحمد بن عبد العزيز، ومحمد بن نايف، وليّ عهده الأسبق، والعجز الكبير الذي ستُعاني منه الميزانيّة السعوديّة وقد يَصِل إلى أكثر من مِئة مِليار دولار، ولكنّ الخِطاب، وفي هذا التّوقيت، يستمدّ أهميّته بالدرجةِ الأولى من ظُهور الملك أوّلًا، والرسالة التي أراد توجيهها إلى الشعب السعودي ثانيًا، والمُجتَمعين الإقليميّ والدوليّ ثالثًا.
نعم هُناك أزَمات مُتعدّدة تُواجهها المملكة، خلقت تُربةً خصبةً للشّائعات، وأبرزها وجود صِراع مُتفاقم على السّلطة داخل الأسرة الحاكمة، وازدِياد حدّة المُعارضة لحُكم الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد، وسيطرته على كُل مفاصل الدولة ومُؤسّساتها، وإقدامه على سياسات “مُغامرة” آخرها اعتقال مُنافسيه الأمراء وأكثر من 200 من المسؤولين ورجال الأعمال بتُهم الفساد، حسب تقارير غربيّة، والدخول في حربٍ نفطيّةٍ ضِد روسيا، الدولة العُظمى، وفي التّوقيت الخطأ، أي في ظِل انخفاض الطّلب على النفط وانهِيار أسعاره نتيجةَ تراجع الطّلب عالميًّا بفِعل انتشار وباء الكورونا، ولا ننسى حرب اليمن التي تقترب من نهايتها، ولكن لصالح تحالف أنصار الله الحوثي، وتآكُل “شرعيّة” الحُكومة “الشرعيّة” التي أرادت المملكة إعادتها إلى السّلطة قبل خمس سنوات، ولم تعد وربّما لن تعود على الإطلاق، خاصّةً بعد سُقوط مُحافظة الجوف المُلاصقة لحُدود المملكة، واحتمال أن تتبعها قريبًا مُحافظة مأرب، حيث تتركز فيهما احتِياطات النفط اليمنيّة.
ظُهور العاهل السعودي، وفي هذا التّوقيت بالذّات، ربّما الهدف منه طمأنة مُواطنيه على صحّته أوّلًا، وعدم دقّة الكثير من الشائعات التي تردّدت حول احتِمال تنحّيه عن العرش لصالح ابنه وليّ العهد، وللتّأكيد بأنّه ما زال يُشَكِّل المرجعيّة الشرعيّة في الحُكم السعودي، أملًا في امتصاص حالة القلق السّائدة، وتهدئة المخاوف الاقتصاديّة والسياسيّة، المُتعلِّقة بمُستقبل المملكة خاصّةً بعد صُدور تقريرين يُحذِّران من احتِمال إفلاسها، الأوّل صدر عن مجلة “أويل برايس” المُتخصّصة بالنفط الذي تنبّأ بأنّ يتم هذا الإفلاس في غُضون ثلاث سنوات، والثاني عن صندوق النقد الدولي الذي كان أكثر تحفّظًا، وقال إنّ الإفلاس قد يحدث عام 2034 بسبب انخِفاض الطّلب العالمي بمُعدّلات كبيرة عن النّفط، لمصلحة البدائل الأخرى الأرخص للطاقة مِثل الطاقة الشمسيّة، والرياح، والاعتِماد الكلّي على السيّارات الكهربائيّة.
الأزمَة الحقيقيّة التي ستُواجهها الدول العربيّة جميعًا، ودُون أيّ استثناء، هي مرحلة ما بعد “الكورونا”، فلا أحد يستطيع أن يتنبّأ بالصّورة التي ستكون عليها المِنطقة والعالم بأسره، فإذا كانت الحرب النفطيّة الحاليّة، وانخِفاض عوائد النفط لأكثر من النّصف في بعض الحالات ستُؤثِّر على الدول الخليجيّة، وتمتص ما تحتويه صناديقها السياديّة من احتِياطات ماليّة، كُلِّيًّا أو جُزئيًّا، فإنّ دول أخرى مِثل مصر قد تُواجه حرب مياه مع إثيوبيا على أرضيّة سد النهضة الذي سيكتمل بناؤه في غُضون أشهر، والعِراق قد يجد نفسه ساحة حرب بالإنابة بين إيران والولايات المتحدة، ومعركة إعادة الإعمار في سورية ستُواجه عقبات كبيرة في ظل هذا الإفلاس العربي، ومن غير المُستَبعد أن تجد دولة مِثل قطر نفسها تحت ضُغوط ماليّة وسياسيّة كبيرة ليس بسبب الحِصار المفروض عليها، وإنّما أيضًا بسبب أعباء تنظيم نهائيّات كأس العالم بعد عامين، والشّيء نفسه يُقال عن معرض “إكسبو” الاقتصادي العالمي الذي من المُفترض أن يُقام في تشرين أوّل (أكتوبر) القادم في دبي، وبات احتِمال تأجيله أو حتّى إلغائه كبير.
منظمة “أوبك” التي خسرت أكثر من 450 مِليار دولار حتى الآن بسبب الحرب النفطيّة التي أشعل فتيلها الأمير بن سلمان تضم دولًا عربيّةً أُخرى مِثل الجزائر وليبيا إلى جانب السعوديّة والكويت والإمارات (قطر انسحبت وسلطنة عُمان فضّلت البقاء خارجها)، ومِثلَما تأثّرت هذه الدول سلبًا بحرب النّفط الأولى في القرن الحالي، أيّ عام 2014، التي أدّت إلى انهيار الأسعار بنسبةٍ أكثر من الثّلثين، أيّ من 110 دولارات إلى أقل من 30 دولارًا بضخ السعوديّة مِليوني برميل يوميًّا تقريبًا، فإنّها ستكون أبرز ضحايا الحرب الثّانية الحاليّة، خاصّةً الدول التي لا تملك صناديق سياديّة مِثل الجزائر وسلطنة عُمان والبحرين، وبدرجةٍ أقل ليبيا لسرقة مُعظم احتِياطاتها الماليّة بسبب الفساد.
من المُؤلم أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيكون الرّابح الأكبر من انهِيار أسعار النّفط حتى الآن، لأنّ هذا الانخفاض سيُعزِّز فُرصه الانتخابيّة، وسيَملأ خزّانات احتِياطاته المركزيّة الكُبرى بكميّات نفط بأسعار أقل من ثُلث الأسعار السّابقة، ولأنّ الخطر على النفط الصخري الذي جعل بلاده الأكثر إنتاجًا في العالم (13 مِليون برميل يوميًّا) ربّما يكون خطرًا مُؤقّتًا تمامًا مِثلما كان الحال في الحرب الأولى عام 2014.
العاهل السعودي تنبّأ بأيّامٍ صعبةٍ بسبب كورونا، ونحن نتنبّأ بأيّامٍ ربّما أكثر صُعوبةً بسبب العُجوزات في الميزانيّات، وخفض الإنفاق العام، الأمر الذي يعني فرض ضرائب، ورفع أسعار الخدمات، وارتفاع مُعدّلات البِطالة، وانخِفاض معدّلات المعيشية وغلاء الأسعار، وبكلمة أخرى بدء مرحلة التقشّف، وتعثّر مُحاولات تنويع الدخل وإيجاد بدائل للعوائد النفطيّة التي تُشَكِّل 90 بالمِئة من الدخل القومي في مُعظم دول الخليج، وجاءت البداية من السعوديّة بخفض الإنفاق العام 5 بالمئة، والقادم أعظم، فالاضطرابات الداخليّة واردة إلا في حالات استثنائيّة مُحدَّدة.
إنّه شرق أوسط جديد سيتبلور وينهض من وسط رُكام كارثة “الكورونا” وأزَماتها، وهو غير ذلك الذي تنبّأت به كونداليزا رايس، وفوضاها الخلّاقة، ولا نَستبعِد الاثنين معًا.. فتّش عن ترامب.. واللُه أعلم.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية