مثقفون صعاليك عن جدارة واستحقاق!

في زمن بات أغلب مَن يحملون فيه صفة «مثقف» يلهثون خلف أضواء الكاميرات، وخلف صالونات الفنادق الفخمة، وصار التستّر تحت غطاء «الموضوعية» والقوالب الأكاديمية معبراً إلى تعويم المواقف والاصطفافات، أصبح من اللائق أيضاً الرجوع قليلاً إلى الخلف، حيث نَمَت موجات فكرية أنجبت مثقفين لم يبالوا بكل هذه الأمور، واهتمّوا فقط بالمضامين التي تصوغها قناعاتهم، غير آبهين مطلقاً بما قد يجلبه عليهم هذا الاختيار من متاعب. هذه المتاعب التي تعني من بين ما تعنيه أن «مثقفاً» ما قد يكون غير مرضي عنه، مع كل ما قد ينتج عن حالة عدم الرضى تلك. بل إنه قد يعيش ويقضي وهو يحمل لقب «صعلوك»، مع كل الدلالات الخاطئة التي التصقت بتلك اللفظة، والتي تحاول هذه المقالة إزالة بعض الغبار عنها.

الفكر «المتصعلك»

لقد تواجد هذا النوع من المثقفين عبر عصور البشرية، ما يعني أن منتوجاً فكرياً كان يختار الخروج عن السائد ونظامه على حد تعبير مهدي عامل، أي أن الفكر قد «يتصعلك». والصعلكة هذه ظاهرة بشرية موغلة في القدم، اختلفت صورها على مر التاريخ وصولاً إلى عصرنا الراهن، حيث أطلقها العرب قديماً على فئة من الشعراء استهواهم تكسير أعراف وتقاليد القبيلة. لكن مَن قد تنطبق عليهم تلك الصفة يتجاوزون بكثير مَن أطلقت عليهم في ذلك العصر، فلنا إن نعتبر الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي واحداً من آباء «المثقفين الصعاليك»، ولو عبر ترحيل التوصيف من سياق ثقافي إلى آخر.

إن الانزياح بهذه التســــمية باستحضار خصائصها يجعلنا نقف على حالات لا حصر لها من المثقفين المعاصرين يمكن وضعهم تحت الطائلة إياها، ذلك أن المسافة من سلطة السائد ورموزه وأدوات الإكراه التي يستعملها لتأبيد نفسه، هي التي تميز بين أصناف المثقفين في كل عصر. وفي حين يميّز مثقفو مسايرة هذا السائد أنفسهم، بحيث يقفون إلى جانبه، بالتبني الواضح لتلك الرموز تارة، وبالتمحك اللفظي حيالها تارة أخرى، يذهب صنف آخر من المثقفين إلى اتخاذ وضعيات أخرى مختلفة حيال ذلك السائد.

وهذه الوضعيات تتراوح بين النزوع إلى الزهد والانزواء، والنزوع نحو الاصطدام مع «المثقفين الكهنة» القائمين على حراسة السائد بجميع صوره. وإذا كان من السهل حسم صفة «المثقف» وعلى مَن تنطبق من الناحية الإجرائية، باعتبار أن المثقف قد يكون شاعراً أو فيلسوفاً أو أديباً أو طبيباً أو تاجراً، المهم أنه يقدّم إنتاجاً مفارقاً بعض الشيء للمعنى الأنثروبولوجي للثقافة، وإلا كان كل إنسان «مثقفاً»، لأنه «كائن ينتج أنماطاً من السلوك». لكن من الصعب حسم صفة «الصـعلكة» التي قد تنطبق على مَن يعارض «السائد» وبين مَن يكون سلبياً حياله في حالة زهد.

من «العصر الجاهلي» إلى ماركس وأنغلز

لنا أن نعدّد حالات مَن تصعلكوا في التاريخ العربي، منذ أيام الشعراء الصعاليك في «العصر الجاهلي»، مروراً بصعلكة أغلب مثقفي العصر الإسلامي الذين اتهموا بالزندقة، وتمّ تكفيرهم وحرق كتبهم أو تهجيرهم. لكن المهم من هذا كله هو التأكيد على أن الصعلكة تؤشر إلى ظاهرة تحدث حينما تعمد القلة الماسكة لزمام السلطة في مجتمع معين إلى استهجان مَن يخرج عن السير السائد للأمور، ومن يهرع إلى إعمال آلة النقد على التقاليد. من هنا، فإن استهجان الظاهرة يصبح محكوماً بخلفيات سياسية وولاءات إيديولوجية معينة، ويكون من النادر أن يغامر أحد بالسعي إلى الاحتفاء بتلك الظاهرة، على النحو الذي جعل بديع الزمان الهمذاني يجعل بطلاً لمقاماته شخصاً يمتهن «التسوّل»، هو أبو الفتح الاسكندري، كنوع من النقد لظاهرة «الكدية» التي انتشرت في العصر العباسي على خلفية أسباب اقتصادية واجتماعية يشرحها شرحاً وافياً حسين مروة في كتابه «تراثنا كيف نعرفه؟».

أما في السياق المعاصر، فمن النادر أن وصف أحد من المثقفين العرب نفسه بالصعلكة، لا سيما من تنطبق عليهم منهم الصفة بنسب معينة، أو حتى وصف «الهمبتة» الذي يشير إلى ظاهرة ثقافية عرفها النسيج الاجتماعي والثقافي السوداني إبان العهدين الاستعماريين التركي والإنكليزي. لكن الكثير من المثقفين في البيئتين العربية والأورو ـ أميركية حملوا من الأوصاف تلك ما يؤهلهم لكي يكونوا «صعاليك» أو «همباتة». فيكفينا في هذا الصدد نصح المفكر الاقتصادي الأميركي جون كينيث جالبرايت لأي شخص أراد أن يُنظَر إليه باشمئزاز وازدراء، أن يتكلم بلسان حال ماركس وانغلز في بيئة فكرية «بورجوازية»، للدلالة على أن هذين المثقفين جنيا ما جناه المثقفون الصعاليك في كل العصور العربية الإسلامية، مضافاً إليهم فريديريك نيتشه الذي لا يحـــتاج المرء إلى كثير عناء كي يضعه في خانة مثيلة.

وفي البيئة الفــــكرية العربية، نحا المثقفون ذوو الميول الشيوعية أو القومية العربية في الغالب منحى شبيهاً، ذلك أن تلك الخلفية الفكرية وفّرت كل الأسباب الكفيلة بأن «يتصعلك» ابراهام الســــرفاتي، المثقف المغربي الماركسي اللينيني، ويتحول من أســــتاذ جامعي في تخصص الهندسة، وسليل إحدى الأرستقراطيات المغربية اليهودية العريقة إلى مناضل «صعلوك» محكوم بالإعدام وفار تحت جنح «العمل السري»، منتهياً إلى المنفى، قــــبل أن يعود إلى المغرب سنة 1999. كذلك كان محمد الفقيه البصري الــــذي عاش مناضلاً منفياً محكوماً غيابياً بالإعدام ثلاث مرات، ليعود من منفاه ويعيش في الظل إلى أن توفي.

وغير بعيد عن المغرب تجدر الإشارة إلى المثقف الموريتاني الأصل فال اباه بن الننيه، الذي حمل اسم محمد الباهي، بعدما أُسندت إليه مهمة تحرير جريدة «العلم» المغربية، حيث الحديث يجري عن صحافي مثقف متميز عن الكثيرين، ما دفع بالروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف إلى كتابة عمل أدبي حوله بعنوان «عروة الزمان الباهي»، شبّهه فيه بشخصية زوربا اليوناني. فالباهي مثقف عاش حياته حاملاً هم مكافحة الاستعمار وبقاياه في بلاد المغرب، متنقلاً بين باريس والمغرب ولبنان، إلى حد جعل طلال سلمان، المدير المؤسس لجــريدة «السفير» اللبنانية يطلق عليه وصف «الصعــــلوك»، محتفياً به وبتقليد «الصعلكة» لدى المثقفين العرب، على إيقاع تذكّر أصدقائه المغاربة حينما تشرّف بزيارته كاتب هذه السطور.

«المثقف الكادح»

لقد اختزلت الصعلكة لدى الكثير من المثقفين العرب المعاصرين معادلة «المثقف الكادح والكادح المثقف»، حيث يحافظ المثقف من هؤلاء على مسافة من سلطة في جميع الأحوال، يدفع بعضهم ثمناً لها حياته، كما هو الشأن بالنسبة للمثقف الناصري السعودي ناصر السعيد، صاحب كتاب «تاريخ آل سعود» الذي يختزل موقفه المناهض للعائلة المالكة في العربية السعودية. الأمر نفسه يمكن قوله عن ناجي العلي، المثقف ورسام الكاريكاتير الفلسطيني، الذي دفعه وضع الاحتلال إلى العيش في لبنان، والتنقل بين أكثر من بلد، لتنتهي حياته باغتيال.

مثقفون صعاليك آخرون يمكن أن يضمّهم التصنيف ذاته، منهم الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم، ورفيق دربه الشيخ إمام عيسى، لم تُغرهما صالات العروض الأنيقة التي صدحت فيها حناجر أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، وفضّلا عليها الغرف الضيقة المتواضعة فوق سطوح عمارات القاهرة، وفي حواريها الشعبية، فضّلا أن يمضيا وقتهما مطاردين من السلطة معتاشين على الطريق بين السجون، صادحين بآلام الفقراء والكادحين والمقموعين. فاستحقا معاً وصف «الصعلكة» بكل ما يعنيه من تشريف، وما يستدعيه من جدارة الاحتفاء.

يمكننا أن نضع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ضمن الخانة نفسها، فالرجل عاش من أجل القضية، ومات وهو يناضل في سبيلها، عاش الترحال في كنف النضال الوطني الفلسطيني. الشاعر التونسي محمد الصغير ولاد احمد أيضاً قد لا يكون بعيداً عن هذا الاعتبار، هو الآخر اختزل عالمه كله في مواقفه التي آمن بها، ومات وهو لا يمتلك غيرها. في الحقيقة هناك كثيرون ممن يستحقون عن جدارة لقب «مثقفين صعاليك»، ولو أنه يمكن ألا يكون شرطاً في اللقب أن يعيش حامله متألماً ويموت كمداً، لكن القوالب الاجتماعية لمجالنا السلطوي العربي شاءت أن من لا يصفق للسائد من مثقفينا يكون مصيره تهميشاً يبعده عن دائرة أي اهتمام، أو يُقصيه من الحياة دفعة واحدة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى