مثقفون وثورات (عباس بيضون)
عباس بيضون
هل كانت الثورات العربية فعلاً بلا رأس لا طليعة ولا نخبة قائدة. المسألة إلى الآن موضع استفهام. لقد جاءت هذه الثورات بعد فشل الأحزاب الطليعية، يسارها وليبرالييها وحتى قومييها، فشلا ظاهراً، وإن عدنا إلى هذه الأحزاب وجدنا ان أحزاب مثقفين: لقد نشأت من اتساع الطبقة الوسطى وانخراطها في التعليم وتلقيها أصداء متعددة من الغرب. كانت النخبة المبادرة لهذه الأحزاب نخبة مهمومة بالاطلاع والعمل الفكري والنظري. لم تستطع هذه النخبة أن تنفذ إلى القاعدة الجماهيرية وانحصر وجودها وتأثيرها في بيئتها وبدا واضحاً تعثرها في الانتقال بعيداً عن أوساطها، ومن الأكيد انها لم تستطع إلا بصعوبة بالغة الابتعاد عن شرنقتها. لم تكن أطروحاتها وسجالاتها وإشكالياتها تهم الجمهور الواسع فقد بقيت هذه وقفاً عليها.
كانت الثورات العربية الحالية انفجارات غير متوقعة وغير محسوبة، لم يكن للنخب التي ذكرناها آنفاً حضور كبير في إطلاقها أو إعدادها، فبدا ان الجهة التي أطلقتها أو كانت واجهتها أو أمسكت بزمامها ليست منقطعة الصلة بالجمهور، بل ظهر أنها استطاعت، بدون أي عوائق، النفاذ إلى الكتلة الشعبية العريضة، واستطاعت بشكل تلقائي تحريكها واجتذابها وإدخالها في حراك أخذ يتسع يومياً وتزايدت قدرته على الاستقطاب بسرعة لافتة. كان في هذا ما يشبه الاعجاز. ما ظهر في يوم مستحيلاً أمكن تحقيقه في أيام وأمكن توفير المداومة عليه والتدرج به والاتساع له، هذا الانقلاب غير المحسوب بدا غريباً، وكان بحد ذاته سؤالاً، هل نجحت نخب أخرى حيث فشل المثقفون وتنظيماتهم، أين كانت هذه النخب إذاً ولماذا لم نلتفت إليها في حينه، هل غفلنا عنها، أم أن المسألة غير ذلك. لقد قامت فورات شعبية لا صلة لها بالنخب أو المثقفين، فورات أو هوجات جارفة استقطبت قطاعات واسعة من العامة القاطبة واستنفرت تلقائياً هذه الفئات التي تعاني على كل المستويات، وبكلمة أخرى هل كان الشعب هو الذي خرج وثار، الشعب وحده، فكان الحراك من تحت، من داخل العامة، من قلب الكتلة الشعبية العريضة. هل ما فشل المثقفون وتنظيماتهم في تحقيقه وجد واقعاً تلقائياً ذاتياً من الجمهور، وبكلمة أخرى هل كانت الغوغاء هي التي قامت حاملة معها إلى السطح نعراتها ولاوعيها وغرائزها.
إذا تحرينا ما جرى فعلاً وجدنا أن الوقائع لا تدعم استنتاجاً كهذاً. لم يكن ما جرى فورة وإن اتخذ هذا الشكل. لقد امتلك من الدوافع والمقومات ما جعله أكثر من ذلك. لننظر إلى مثابرته وإلى تمرحله وإلى نموه، نجد أن ما جرى كان يملك ضمنياً ما في وسعه أن يتطور إلى مشروع وأن يتدرج إلى وجهة متسقة وأن يطرح شيئاً فشيئاً تصوراً سياسياً. إن نحن عدنا إلى مصر وإلى تونس وجدنا هذا التدرج قائماً. لم يكن غائباً ان الديموقراطية هي المطلب الأول فالجماهير هنا وهناك (كما في ليبيا وسوريا واليمن أيضاً) خرجت ضد الاستبداد. إصرار هذه الثورات على الأقل في البداية، على سلميتها، كان في صلب طلبها للديموقراطية، بدت هذه السلمية بحد ذاتها نقداً جذرياً للاستبداد والسلطات القائمة على العنف، بحيث اضطرت السلطات القائمة إلى مواجهتها بالعنف وإجبارها على الانحراف إلى التصدي للقوة بالقوة. هذه الثورات طرحت منذ البداية مسألة الدولة واهتم جمهورها العريض بدستور هذه الدولة وتحول السجال القانوني إلى مادة شعبية، وزاوج الحراك بين أساليب الانتفاضة وأساليب التعبئة والنقاش. كان لهذه المتابعة والتوقف عند مسائل دستورية وقانونية ما يبين أن الثورات لم تكن منذ البداية بلا وجهة، ويبين أيضاً أنها تملك منذ البداية هياكل برنامجية، ما يجعلنا نستبعد أن تكون مجرد فورات غوغائية. كما يجعلنا نستبعد أن تكون بلا رأس وأن لا تملك نخباً تعمل على التعبئة ورسم الأهداف وتغذية السجال.
أين كان المثقفون من هذه الثورات، بادئ بدء نقول إن تنظيمات المثقفين لم تكن شاملة لكل المثقفين، كانت نوعاً من التشيع الثقافي معبرة هكذا عن انشقاقات أقلوية بين المثقفين، كانت وقفاً على مثقفين منخرطين في العمل الثقافي، مثقفين الثقافة همهم وتقريباً عملهم، أما بقية المثقفين، متخرجي الجامعات وما يسميهم غرامشي ضباط الإنتاج والمنفتحين على الميديا الجديدة والمبهورين بها، فهذه النخبة لم تكن بعيدة عن الثورات، لقد كانت في أساسها، وفي صناعتها، وفي توجيهها وصياغة سجالاتها وإشكالياتها ومطالبها وشعاراتها، فلا يسعنا والحال هذه ان نقول إن ما جرى كان فورات غوغائية، كما لا يسعنا ان نقول ان المثقفين كانوا حقاً خارجها.