مجزرة دير ياسين بلسان بعض مرتكبيها
«ركضوا كالقطط… لن أقول لك إننا كنا هناك بقفازات من حرير. منزل إثر منزل… ندخل مع مادة متفجرة، فيما هم يهربون… تفجير وإلى الأمام، ثم تفجير وإلى الأمام… في غضون ساعات، نصف القرية لم تعد موجودة».
الراوي هو يهوشع زتلر، قائد «عملية» دير ياسين من منظمة «ليحي» الصهيونية، واصفاً تنفيذه المهمة التي أوكلت إليه قبل تسعة وستين عاماً. ينفي زتلر أن يكون رجاله ارتكبوا مجزرة في القرية الواقعة غربي القدس، برغم الوصف الذي تقدم به، ويضيف مستدركاً «كانت هناك بضعة أخطاء من جماعتنا. وأنا غضبت مما فعلوه. فقد أخذوا جثث القتلى وجعلوها فوق بعضها البعض وأحرقوها. كانت الرائحة كريهة. هذا ليس بسيطاً».
زتلر هذا أدلى بإفادته في مقابلة خاصة قبل سنوات مع مخرجة إسرائيلية اسمها نيتع شوشاني أخذت على عاتقها القيام بتحقيق تاريخي حول المذبحة في سياق إنتاج وثائقي عنها. وقد عملت على جمع إفادات عدد من الأشخاص الذين عايشوا تلك المجزرة، إضافة إلى وثائق أخرى حولها تمكنت من وضع اليد عليها، بالرغم من رفض الحكومة والقضاء الإسرائيليين فتح الأرشيف الرسمي أمامها بذريعة أن من شأن ذلك أن «يمس بعلاقات الدولة الخارجية وبشرف الموتى».
أمس، نشرت صحيفة «هآرتس» بعضاً من الوثائق والإفادات التي تضمنها الفيلم المقرر عرضه اليوم في إطار ما يعرف بـ«مهرجان القدس»، وهي تضيء للمرة الأولى منذ عقود على تفاصيل من الرواية الإسرائيلية للمجزرة التي راح ضحيتها أكثر من مئتي قروي فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. بدأ الهجوم على قرية دير ياسين في صباح 9 نيسان 1948، كجزء من «حملة نحشون» لاقتحام الطريق نحو القدس. وشارك فيها نحو 130 مقاتلاً صهيونياً من منظمتَي «إيتسل» و«ليحي» تلقوا مساعدة من منظمة «هاغاناه». تقول الرواية الإسرائيلية إن هؤلاء اصطدموا بمقاومة شديدة، قتلت منهم أربعة وأصابت عشرات، فما كان منهم إلا أن تقدموا بين منازل القرية ببطء وشرعوا بتفجير المنازل واحداً تلو الآخر. لكن الخلفية الحقيقية للمجزرة يصرح بها زميل زتلر في العملية، رجل الـ«إيتسل» بن تسون كوهين، الذي يظهر في الفيلم قائلاً من دون تردد «لو كان في حينه ثلاث أو أربع دير ياسينات، لما تبقى عربي واحد في البلاد. هؤلاء اللاجئون في لبنان والأردن وسوريا ذهبوا إلى هنالك بسبب أحدهم. يوجد يهودي واحد يمكنه أن يقول: بسببي. أنا قدت دير ياسين».
ويعرض الفيلم رسالة عُثر عليها في أرشيف منظمة «ليحي» كتبها أحد مقاتليها جاء فيها: «منظمتنا نفذت يوم الجمعة الماضي، بالتعاون مع إيتسل، عملية احتلال ضخمة لقرية عربية على طريق القدس ــ تل أبيب ــ دير ياسين. أنا شاركت في هذه العملية بشكل نشط جداً». ويصف عضو «ليحي» دوره في المجزرة كاتباً: «قتلت في القرية العربية مسلحاً أطلق النار عليّ، وفتاتين ابنتي 16-17 عاماً ساعدتا مطلق النار. أوقفتهما إلى الحائط وأطلقت عليهما صليتين». ثم يضيف شارحاً حول أعمال السلب والنهب التي نفذها هو ورفاقه: «صادرنا الكثير من المال والمجوهرات التي وقعت في أيدينا… كانت هذه عملية هائلة حقاً، وليس صدفةً أن اليسار يشهّر بنا مرة أخرى».
إحدى الشهادات الصريحة حول طبيعة ما حصل يرويها المقدم في الاحتياط، مردخاي جيحون، الذي توفي قبل عام، وفي حينه كان ضابط استخبارات في الـ«هاغاناه»: «كان هذا إحساساً واضحاً بالقتل. كان يصعب تفسيره بأنه تم في ظل الدفاع عن النفس. انطباعي كان أنه يتجه بقدر أكبر نحو المذبحة أكثر من أي شيء آخر». كما يروي يائير تسبان، أحد الأعضاء في منظمة «جدناع» في حينه (كتائب الشبيبة) كيف تم إرساله مع رفاقه لدفن جثث القتلى على عجل: «كانت هناك خشية من أن يصل الصليب الأحمر في أي لحظة. كان ينبغي طمس الآثار لأن نشر الصور والشهادات عمّا يحصل في القرية كان من شأنه أن يضر جداً بصورة حربنا التحريرية». يضيف تسبان: «رأيت عدداً كبيراً من الجثث. لا أذكر أني رأيت جثة رجل مقاتل. ولا بأي حال. أتذكر أساساً نساءً وشيوخاً». وينفي تسبان ادعاءات بعض المشاركين في المذبحة بأن القتلى أُصيبوا في تبادل إطلاق نار، مؤكداً أنه رأى الناس وقد أُطلقت عليهم النار في ظهورهم: «شيخ وامرأة يجلسان في زاوية الغرفة ووجههما على الحائط وإصابتهما من الخلف».
وفي سياق إنتاجها الوثائقي، تروي شوشاني أنها سعت للحصول على صور تاريخية عن المذبحة، فاكتشفت أنه لا يوجد أي صور منشورة لها. ورداً على طلبها، حرر لها الجيش الإسرائيلي من أرشيفه صوراً لمقاتلين شاركوا في المجزرة، لكن من دون أي صورة للقتلى الفلسطينيين الذين قضوا فيها. وأثناء بحثها العبثي عن صوَر، تعرفت إلى شرغا بيلد، الذي كان ضابط استخبارات في الـ«هاغاناه» خلال فترة المجزرة. وروى لها أنه أُرسل بعد المجزرة إلى القرية مع كاميرا ليوثق ما حصل: «عندما وصلت إلى دير ياسين، كان أول شيء رأيته شجرة كبيرة محترقة رُبط عليها شاب عربي. لقد ربطوه وأحرقوه مع الشجرة. لقد صورت هذا». ويؤكد أنه صوّر أيضاً عشرات القتلى الآخرين الذين تم تجميعهم في محجر قرب القرية، وسلّم شريط الصور للمسؤولين عنه، لكنه منذئذ لم يرَ هذه الصور.
إشارة إلى أن سلطات الاحتلال أقامت مجمعاً طبياً للصحة النفسية على أراضي قرية دير ياسين أطلقت عليه «كفار شاؤول»، كما حولت مساحات واسعة من قسمها الشرقي إلى أحياء تابعة لحي «غفعات شاؤول» الواقع غربي القدس المحتلة.
صحيفة الأخبار اللبنانية