مخاطر اللعب بالتاريخ السياسي السوري: وصية خالد بكداش التلفيقية نموذجا!
لم نعتد خلال المرحلة التالية لانحسار البرجوازية الوطنية السورية بعد الانقلابات العسكرية على احترام الشخصيات السياسية في سورية، فمنذ ذلك الوقت انكفأت الشخصيات الوطنية السورية عن الواجهة، وتراجع دورها مع تصاعد الصراع على السلطة في أوساط الجيش، ولم نعد نشاهد مثل هذه القامات التي تفرض وجودها على الأرض، سواء اتفقنا معها أم لم نتفق، ومن هذه القامات شكري القوتلي وخالد العظم وفارس الخوري وغيرهم من رموز الحركة السياسية السورية وقتها.
وفي التراث السياسي لهؤلاء، مواقف وطنية نحاول استعادتها من التاريخ في أزماتنا الراهنة، والبناء عليها لتوليد نماذج شبيهة من المواقف، ونذكر هنا موقف فارس الخوري من الإسلام في رده على الجنرال غورو وموقف شكري القوتلي من البقاء في السلطة والتخلي عنها للرئيس جمال عبد الناصر، كذلك نذكر موقف خالد العظم في الأمم المتحدة مع المندوب الفرنسي.
تراجعت الحركة السياسية في سورية عموما، وعاشت أزمة بنيوية عمقتها الحرب التي نعيشها الآن، ولم يبق من الرموز التاريخية لهذه الحركة إلا القليل، وشيئا فشيئا نفتقد لمثل هذه الرموز، فلا نجدها إلا على صفحات الكتب أو في متاحف التاريخ، ومع ذلك يجد البعض سهولة في انتقادها ورجمها وأحيانا شتمها في وقت تراجعت فيه إمكانية الحوار وتبدلت وسائله، وإذا كنا نؤيد أي مراجعة أو نقد للتاريخ وشخصياته، فمن الخطر تشويهه نتيجة مواقف مسبقة وبطرق أقرب إلى التزوير منها إلى الواقع.
وبين فترة وأخرى، نلحظ مثل هذا الخطر، في طريقة من النقد تعتمد التشويه، وهي طريقة لاتؤسس لمستقبل أفضل. فمن حق أي سوري أن ينتقد أداء ومواقف الشخصيات السياسية التاريخية، فليس هناك تحريم لهذه العملية، وخاصة أن الحرب في سورية يفترض أن تؤسس إلى مراجعة للذات، وتمحيص في المواقف الفكرية والسياسية الوطنية والعمل على انتقادها للوصول إلى الصيغة التي يبحث عنها السوريون في التعايش السياسي للمرحلة التالية للحرب البشعة المستمرة حتى الآن . ولكن ليس من حق أحد تقديم تضليل عن الأفكار والممارسات حتى لتلك الشخصيات التي نتفق على دورها السلبي في حياتنا، وعلى ذلك تبنى مسألة احترام آراء الآخرين التي لاتتوافق مع آرائنا.
وفي آخر، ما كتب في هذا المجال، تم تناول شخصية خالد بكداش زعيم الشيوعيين السوريين، وهو شخصية إشكالية تحمل من الايجابيات والسلبيات مافي غيرها من نماذج مماثلة وثمة انتقادات كثيرة لأدائها السياسي، إلا أنها كانت شخصية فاعلة ومؤثرة ومهمة في الحركة السياسية السورية في القرن العشرين .
وقبل أيام نُشر نص (مُتخيّل) (تلفيقي) يبنى كاتبه مضمونه على أنه (وصية ) لخالد بكداش كانت ضائعة وتم اكتشافها، وفي هذا النص استخدام لوقائع في غير سياقها وحقيقتها، مما يعني قراءة مشوهة للتاريخ . فكتبَ صاحب النص (يوسف بشير) مايلي: “عُثر مؤخّراً على وصيّة الزعيم الشيوعيّ السوريّ خالد بكداش الذي رحل عن عالمنا في 1995. في ما يلي ننشرها بعدما ساد الظنّ قبلاً بأنّها فُقدت”..
إن وصف النص بالوصية يوحي بمسألتين: أولا صدقية القول، وثانيا أهميته، ولذلك يظن القارئ لأول وهلة أننا أمام وثيقة تاريخية، أي أننا أمام معلومات ستشغل حيزا من ذاكرة القارئ وفيها، أن خالد بكداش يعرض مشاعره (الوصية) على أساس وجود شخصيتين “كرهتهما” وشخصيتين “أحببتهما” وشخصيتين “احتقرتهما” وشخصيتين “حسدتهما”، فخالد بكداش يكره: جمال عبد الناصر وميخائيل غورباتشوف. لكن لماذا؟! لنقرأ ماذا فعل ملفق الوصية (الفيكشن)، والكلام هنا منسوب لخالد بكداش : “كنت الوحيد في مجلس النوّاب السوريّ الذي لم يحضر جلسة المهزلة للتصديق على الوحدة مع مصر. لقد تركتُ احتفالهم الأبله وركبتُ الطائرة التي أقلّتني إلى براغ وموسكو.” ، وهنا تختلط الوقائع مع التلفيق حيث نتابع: “أحسست أنّه ــ أي عبد الناصرــ يأخذ منّي كلّ ما أملك وكلّ ما صنعت. حتّى مواصفاتي الشخصيّة، كرجل طويل ووسيم وأنيق، فضلاً عن خطاباتي التي كانت تلهب الجماهير، استولى عليها هذا الضابط المصريّ الذي كان في عمق أعماقه فاشيّاً متأثّراً بموسوليني”.
أما في ما يتعلق بغورباتشيوف، فيسأل خالد بكداش: ” من أين أتانا هذا الوغد؟ لا شكّ أنّ الإمبرياليّين دَسّوه في قيادة الحزب الشيوعيّ السوفيتي. العناصر اليهوديّة لا بدّ لعبت دوراً في ذلك. هذا الرجل دمّر الاتّحاد السوفيتي.” ويضيف:
“لقد أشعرني غورباتشوف بموت يسبق الموت الفعليّ. باللاجدوى والعطالة. أنا خالد بكداش، الذي كان يستقبلني كبار الرفاق في بلدان الكتلة الاشتراكية، ويستضيفونني في أبهى البيوت، وأحياناً القصور، صرت أصل إلى تلك البلدان كما يصل أيّ شخص آخر: أفتّش عن حقائبي في المطار ثمّ أحملها بيدي وأتوجّه إلى فندق شعبيّ رخيص.”
هذا يعني أننا أمام شكوى هزيلة من خالد بكداش أمام التاريخ لايجوز التعاطي معها بهذه الطريقة، ولايبنى عليها الموقف النقدي منه، وعندما يقول، أي بكداش أنه أحب لينين وستالين تبدو المسألة بديهية، ولكن هل يمكن أن يكون في نص وصية بكداش الكلام التالي: “ولأعترف الآن بأنّني لم أطمح إلى شيء كطموحي أن أكون ستالين سوريّا.”
أما احتقار بكداش، لنيكيتا خروتشوف، فيأتي بسبب عقد المؤتمر العشرين “البائس” لنقد الستالينيّة وما سمّوه عبادة الشخصيّة. “لقد قتل الرفيق بيريا الذي كان يُرهب أطفال البورجوازيّين والمتآمرين وهم في أسرّتهم.(..) وخروتشوف، ذاك الفلاّح الأبله، هو من ورّطنا بعبد الناصر ومَن يشبهونه من قادة قوميّين وبورجوازيّين صغار. قال لنا: حلّوا أحزابكم واندمجوا في تنظيمات عبد الناصر!”
أما الشخص الثاني الذي احتقره بكداش ، فلم يكن إلاّ فرج الله الحلو. “فهو أيضاً فلاّح ساذج كان يتوسّم في نفسه قيادة الطبقة العاملة. كانت علاقته بالشيوعيّة كعلاقة رهبان الأديرة بالدين، لا يقارب النساء ولا يشرب الخمر ولا يغيّر ملابسه الداكنة المتقشّفة..”
كل هذه المعطيات يصبها ملفق ” الوصية” في إطار السخرية من شخصية خالد بكداش، وضعفها أمام نفسها، بل وأمام المنهج الذي تشتغل عليه، ويمضي أبعد من ذلك، فيتحدث عن الشخصيتين اللتين حسدهما خالد بكداش أي حافظ الأسد وياسر عرفات، ويقول: “حين كان حافظ الأسد يجلس على رأس الطاولة التي تجتمع حولها “الجبهة الوطنيّة التقدّميّة”، كنت أقول لنفسي إنّه يجلس على الكرسيّ الذي ينبغي أن يكون لي” ويضيف: “لقد كان الرجل مهذّباً معي، وأنا كنت مضطرّاً أن أبدو مهذّباً معه لمعرفتي بالثمن الباهظ لأيّ سلوك معاكس، فضلاً عن تشجيعه على المضيّ في التحالف مع الاتّحاد السوفيتي. لكنّه لم يكفّ عن إضعافي وإضعاف حزبنا وكان يتلذّذ بذلك.
وفي سخرية غريبة حتى من أهمية القضية الفلسطينية والموقف منها نقرأ: “أنا، من البداية، لم أحمل هذه الثورة الفلسطينيّة وقضيّتها على محمل الجدّ: ثورة مخيّمات، أي جماعات غير منتجة وبلا طبقات!”..
بقيت خاتمة “الوصية”، فهي تتناول ثلاثة شخصيات من أسرة بكداش هما وصال فرحة زوجته وابنه الدكتور عمار بكداش وصهره الدكتور قدري جميل، فيصف زوجته بالوفاء، ولكن:” كانت دائماً وفيّة لي وفاءً لم أستطع أن أبادلها بمثله” هذا يعني الانتقال إلى اتهام خالد بكداش بخيانة زوجته، وهي طريقة لاتليق بالحديث عن شخصية سياسية لم نسمع عنها مثل ذلك.
ويأتي النص على مسألة قيادة الحزب، فجاء في ” الوصية المتخيلة” : لماذا وصال وليس ابني عمّار أو صهري قدري؟ ويأتي الجواب بالسخرية من حب عمار لتناول السمن الحمويّ. ، و” إمّا سمن حمويّ أو قيادة الطبقة العاملة” أمّا قدري، فيقول بكداش : أنا بصراحة لا أثق به. هو أيضاً يشارك عمّار بطئه وضعف جاذبيّته، إلاّ أنّني أشتبه بأنّه لم يقترن بابنتي سلام إلاّ طمعاً بوراثتي السياسيّة!
هل هذا منطق في انتقاد شخصية سياسية سورية تعتبر من أهم الشخصيات السياسية العربية في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، حتى لو لم نتفق معها ؟!
تلك هي سقطة النص المتخيل (الفيكشن) لوصية خالد بكداش، وتلك واحدة من مخاطر كثيرة تجري لتشويه تاريخ الحركة السياسية والإيحاء بأنه لم يكن في حياة السوريين مايستحق العودة إليه والوقوف عنده !!