مختصر حكاية «الآنسة مي»
في 19 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مرت الذكرى الــ 74 على رحيل الآنسة مي، واحدة من أهم الأديبات العربيات في القرن العشرين، إن لم تكن أهمهن على الإطلاق.
هي ماري إلياس زيادة، الأديبة والمفكرة والشاعرة والخطيبة والموسيقية التي اشتهرت بدورها الريادي في الحركة الأدبية والثقافية في مصر منذ وصولها إليها في الثانية والعشرين من عمرها مع والدها ووالدتها، قادمين من مدينة ميلادها الناصرة في فلسطين.
كان والدها قد رحل من بلدته «شحتول» في لبنان الى فلسطين، حيث تزوج من والدتها نزهة معمر الفلسطينية. تمت ولادة ابنتهما ماري في 11 شباط (فبراير) 1886. كانت مصر في تلك الفترة تستقطب مثقفي الوطن العربي الذين جاؤوا بمشاريعهم الثقافية والأدبية والصحافية يلوذون بطقس الحرية والسماحة الذي كانت تمثله مصر للجميع، ويسهمون في حركة نهضتها.
جاءت الابنة النابغة إلى مصر مشروع أديبة تكتب بالفرنسية، بتوقيع «إيزيس كوبيا»، فحولتها مصر إلى أديبة تكتب بالعربية، بتوقيع الآنسة مي الذي اقترحته أمها مأخوذاً من الحرف الأول والأخير من اسمها «ماري». تعرفت «مي» إلى أستاذها أحمد لطفي السيد، الذي قادها إلى برنامج مكثف لدراسة اللغة العربية والخط العربي. والتحقت بالجامعة المصرية، ودرست الفلسفة الإسلامية واللغة على يد أساتذة من الشيوخ. كان والدها مارونياً، وأمها أرثوذكسية، فنشأت مسيحية متدينة التدين الخالي من التعصب المذهبي وغيره: متسامحة، عطوفة، متفهمة للاختلاف، محترمة لكل العقائد، تذكر في كل حين وفي كتاباتها إجلالها للقرآن الكريم، الذي وهبها الفصاحة وأخرجها من العجمة. ألفت 15 كتاباً غير الأشياء التي لم يتم تجميعها. قدمت للمرة الأولى في التأليف العربي الحديث ثلاث دراسات مهمة ورائدة عن الأديبات «باحثة البادية ملك حفني ناصف» و«عائشة التيمورية» و«وردة اليازجي». وهي من المراجع المهمة لكل باحث في تاريخ تلك الأديبات. إلى جانب نشاطها في الكتابة والخطابة، أقامت «الآنسة مي» صالونها الأدبي الذي غطت شهرته على جوانبها الإبداعية الأكثر أهمية، واستمر هذا الصالون الثلاثائي من عام 1911 حتى 1931 تقريباً، قبلة كل أدباء ووجهاء الثقافة في ذلك العصر. كما اشتهرت مراسلاتها الأدبية مع الكثيرين من أصدقائها الأدباء والشعراء، ومن أشهرهم جبران خليل جبران، وهي حالة إيحاء بالحب خاض فيها الجميع رغم أنهما لم يلتقيا أبداً، وكان لجبران حكاياته البايخة مع نساء أخريات، وكذلك مراسلاتها مع عباس محمود العقاد. وعلى الرغم من أهمية هذه المراسلات، إلا أنها بدت كأنها كانت النشاط الأدبي والحياتي للآنسة مي، حتى ظن بعضهم أنها لم تكن سوى العاشقة أو المعشوقة، وهذا يرجع الى الأقلام التي تجاوزت في تحليلها المراسلات من الحدود الواقعية الى خيالات الظن المؤدية إلى دروب الكذب والزور والبهتان.
تعرضت الآنسة مي بعد وفاة والدها 1930، ثم وفاة أمها 1932 الى حالة من الحزن المنطقي، ووجدت نفسها وحيدة في بيتها من دون حماية وحدب والديها، فقررت إلغاء ندوة صالونها الأسبوعية كل ثلاثاء، لكنها لم تنقطع عن التأليف والكتابة والتواصل الثقافي. حتى يذكر لها قيامها بعقد مصالحة بين طه حسين والزيات في بيتها عام 1935، إلى أن يأتي اليها ابن عمها جوزيف من لبنان، يسألها عن أملاكها وأموالها ويرشح نفسه مديراً لأعمالها. لما أكّدت له أنّها لا تملك إلا حسابات بسيطة، دس عليها جواسيسه ليستطلعوا خبايا أموالها، ومنهم قريبة أحضرها لتقيم معها بزعم أنها خادمة لترعى شؤونها! وكان لوالد مي قطعة أرض في بلدته شحتول استولت عليها عائلته، مما جعله يحذر ابنته من الثقة بأقاربه أو أقارب أمها. ومع ذلك، لم تجد مي مانعاً من فتح بابها لابن العم الذي استطاع بالخديعة أن يلتف حولها لتوقّع له على توكيل يخول له التصرف باسمها. وبدعوى الترفيه عنها، استدرجها الى لبنان لتجد نفسها في قبضته يدخلها مستشفى العصفورية بقميص المجانين!
لم تتوقع الآنسة مي هذا التطور المفاجئ في مسار حياتها الكريمة الهادئة الموشاة بالأمانة والنظافة والرقي ورفاق الثقافة وتدليل الوالدين وتبجيل الأصدقاء، لتصبح في سن الـ49 مسجونة مع المجانين بلا حول أو قوة ومحجوراً عليها بحكم قضائي نافذ في لبنان ومصر. أضربت عن الطعام عسى أن تتنبه الأوساط الثقافية في مصر ولبنان إلى مأزق السجن الرهيب الذي ألقاها أهلها فيه ظلماً وكذباً وبهتاناً طمعاً بما تملك، ولم يتحرك أحد! اندهشت مي لسرعة تصديق أصدقائها تهمة الجنون التي ألصقت بها، مما جعلها تقاطعهم جميعاً حين فرج الله كربها بواسطة التاجر الفلسطيني مارون غانم الذي دبر بإحكام ما سمته «مؤامرة إنقاذها» من محنتها التي استمرت ثلاث سنوات رأت فيها، كما قالت: «أكثر جوانب النفس البشرية إظلاماً وقسوة وشراً»!
صحيفة الأخبار اللبنانية