مخيلة وحشية تركض أحصنتها في براري العالم (شوقي بزيع)

 

شوقي بزيع

لم يكن في حسبان هذا الصباح أن يحمل إلينا خبر رحيل جوزف حرب. ذلك أن الاحتمالات الكثيرة للموت لم تكن قد وضعت شاعر «شجرة الأكاسيا» في جدول أولوياتها. كنا نترقب بالكثير من الحذر والخوف موعد السيارة التالية التي ستنفجر في مكان ما من أمكنة بيروت وضاحيتها التي باتت شبيهة بالقلعة. وكنا نعرف أن جوزف مصاب بمرض غامض، آثر كعادته أن يُبقيه طي الكتمان. ومع ذلك فلم يخطر في بال أحد أن خبر رحيله سيكون العلامة الأكثر قتامة وإثارة للأسى في هذا الصباح المشمس. ليس لأن الشعراء لا يموتون كغيرهم من خلق الله، بل لأن الشاعر الذي تتردّد لفظة الموت كثيراً بين ثنايا نصوصه كان يحسب دائماً أن نقل الموت إلى اللغة تحوّله إلى حالة جمالية مجردة وتبعده عن الحضور الواقعي المباشر. كأنه كان يضلل الموت بوضعه في خانة الرمز، تماماً كما يفعل المصارعون بالقماشة الحمراء على حلبات الصراع مع الثيران.
إضافة إلى كل ذلك لم يكن جوزف حرب يهيئ لحياة بهذا القِصر.
كان يتعامل مع الحياة وكأنه سيعيشها أبداً. وسواء التهمها دفعة واحدة أو ضغضغها على مهل فقد كانت ربيبة جسده وروحه ولغته وقصائده. ولولا حبه لها لما بنى في قريته «المعمرية»، وفي منتصف الستينيات من عمره، ذلك القصر الباذخ الذي انتقم من خلاله من الصورة النمطية لعوز الشعراء وفقرهم المدقع. ولما زرع أزهاراً وحدائق وأشجاراً معمرة كان يريد من خلالها أن يقنع الموت بتركه وشأنه لأن انهماكه بتربية أشجاره لا يترك له الوقت الكافي للإنصات إلى موسيقى العدم.
لم يكن لدى جوزف دقيقة يضيّعها. فمنذ البدء تراءت له الحياة أقصر مما يجب. لذلك لم نكن لنراه في مطعم أو مقهى أو حانة. ولم نكن نلمحه على رصيف أو ناصية شارع أو شاشة تلفاز، رغم أنه كتب للإذاعة والتلفزيون الكثير من البرامج والأعمال اللافتة. كانت الحياة عنده مثلثاً ذهبياً تحتلّ القراءة ضلعه الأول والكتابة ضلعه الثاني، فيما يتم تقاسم ضلعه الثالث بين موجبات الصداقة والشغف بأطايب العيش والوله الصوفي بالأنوثة. لكن تبرمه بالاستعراضية وحب الظهور جعلاه أقرب إلى التنسك والزهد منه إلى أي شيء آخر. فقد كان يخلد إلى عزلته شهوراً طوالاً قبل أن يطل عبر أمسية أو مهرجان شعري أو مناسبة اجتماعية. ربما كان يعرف أن جوهره الحقيقي متمثل بالقصيدة ولغة المجاز الأدبي ولذلك فقد دفع بأعماله الشعرية الكثيرة والغزيرة إلى الواجهة، واختبأ في صومعته في الحمراء لكي يضيف المسافة بين ألق الكتابة وكاريزما الحضور الشخصي. وكان طوله الفارع وصوته الرجولي على بحّة مثخنة بالشجن، إضافة إلى وقفته الواثقة وإلقائه المسرحي المتمكّن، يجعلان منه في المهرجانات الحاشدة فارس المنابر الذي لا يُضاهى.
حتى ثمانينيات القرن الفائت لم يكن صاحب «مملكة الخبز والورد» قد أصدر أية مجموعة شعرية رغم أن عمره كان قد شارف على الأربعين آنذاك. كان شعره يصل إلينا عبر صوت فيروز وحده، ولم يكن ذلك على أي حال بالأمر القليل. إذ أن كل نص يلامسه ذلك الصوت كان يتحوّل إلى ذهب خالص، فكيف إذا كان النص موشّى بذهب أيلول وورقه الأصفر، أو مغسولاً بصباحات بيروت، أو طالعاً من ثقوب الأبواب المقفلة على أحزانها، أو مرهقاً بثقل الأسماء التي يحملها الناس، أو مشغولاً بقلوب الجنوبيين التي تحارب، بنبضها المتسارع، وحيدة ضد وحوش العالم وبرابرته الجدد.
وكحياته تماماً، لم يكن جوزف ليقف في المكان الوسط من الخيارات. إذا كانت قصيدته تتسع لتملأ آلاف الصفحات كما في معلقته «المحبرة» الأكثر طولاً في الشعر العربي، أو تضيف من ناحية أخرى لتكتفي ببضعة أسطر. صحيح أننا كنا نأخذ عليه، أحياناً، غزارة فائضة وجيشاناً للغة لم يعمل على لجمه وترويضه، ولكن الصحيح أيضاً أنه كان يملك مخيلة برية لا تكفُّ أحصنتها عن الركض في الأماكن غير المأهولة للكلمات. والصحيح أيضاً أن شعره هو حصيلة تضافر خلاق بين ضوء الشمس وطراوة الينابيع، بين الصور المباغتة والإيقاعات المتهدجة كالنايات، كما بين الاستنفار الشبق للحواس وبين الانتشاء الروحي بفرح العالم وخفة عناصره التكوينية. إنه شعر ريفي بامتياز، لا بالمعنى الرومنسي المحض للتوصيف، بل بمعنى الانبثاق الدائم لحركة الخلق والعودة المستمرة إلى كنف الطبيعة التي ترفد القصائد بكل ما تحتاجه من صور وأطياف وتجليات. على أن شاعرية جوزف حرب الأكثر اتصالاً بالكثافة والإبهار والبراعة المشهدية الخاطفة تتمثل في مقطوعاته القصيرة، حيث في نص جميل بعنوان «بدو يشربون الشاي» نقرأ له «الريح نايْ/ والبحرُ سهلٌ أزرقٌ أصفرْ/ ونوارسٌ بيضاء ظنت أن هذا الغيم/ بدوٌ في الغروب تربَّعوا/ والشمس بين أكفِّهم إبريق شايْ/. وحيث نقرأ له في ديوان «زرتك قصب فلَّيت ناي» المكتوب باللهجة المحكية «بيضلّ عن بعضو الشجر عايش بعيد/ مشتاق ناطر دمعتو الخضرا وحيدْ../ وأيلول ورقة/ والهوا ساعي بريد». وحيث يرهص الشاعر بقرب رحيله يكتب: «ما في حدا بهالبيت/ اللي بيشبه بوادي دير فاضي/ كان شمع وذاب/ تخُّو سنيني من الوقوف بهالشتي والريح/ وكتافي انمحو من جمرة كياس المسا/ وحفِّ العْتاب/ ونزْلو دموعو وما لقي/ مين اللي يمسح دمعتو هالباب».
جوزف حرب لا تغلق الباب خلفك. اتركه موارباً فحسب. فثمة كثيرون يريدون الدخول إلى المملكة التي أثثتها بحجارة الحب والشغف والكلمات. وليس المستقبل سوى واحد من زوارك الكثر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى