مدن العواطف: التغيّر المدني في برلين والقاهرة (1860- 1910)


قد يشعر القارئ عند قراءة عنوان الكتاب أنه سيقرأ قصة عاطفية، ولكن في الحقيقة هذا ليس ما يريد أن يتحدث عنه “جوزيف بن بريستل”، وإنما ما يقدمه هو التاريخ المدني للحاضرتين: برلين والقاهرة. والتغييرات الإجتماعية والنفسية التي طرأت على كلتاهما في مقاربة متوازية ما بينهما. كما يتحدث الكتاب عن العلاقة ما بين التطور المدني العمراني وما بين الثورة الصناعية، وتأثير ذلك على العلاقات الإنسانية والعلاقات العاطفية، وكيف ساهم تطور الصناعي والعمراني وانتشار التعليم في التأثير في العلاقات الرومانسية ما بين الجنسين.

يضع بريستل المعلومات بين أيدينا في 198 صفحة، يقسمها في ستة فصول بالإضافة إلى المقدمة والنهاية، ومعتمداً على أكثر من 360 مرجعاً، ليقدم مقاربة جديدة للتاريخ، يتمحور فيها حول الإنسان.

تم اختيار كل من برلين والقاهرة كحاضرتين كبيرتين، تغيرتا حجماً وعمراناً لتصبحا من أكبر المدن في العلم بحلول القرن العشرين. ولكنهما في الوقت ذاته تمثلان حضارتين مختلفتين: واحدة في الغرب وأخرى في الشرق. وفي الحقيقة يجب أن تترك النتائج التي وصل إليها بريستل لمجهود القارئ ليكتشف ذلك من خلال قراءة الكتاب. فالكتاب يمثل نوعاً جديداً من القراءة للتاريخ ولتطور العلاقات الإنسانية ومدى تأثرها بالأحداث العالمية والمحلية والتي تأخذها في مسار التغيير، على مختلف الصعد: القانونية، والتنظيمية، والإجتماعية، والأدبية والفكرية وغيرها.

ويبدو أن بريستل كان شغوفاً بالكتاب الذي وضعه العالم المصري محمد ناصر، بعنوان “المباحث الحكمية في أحوال النفس وتربية القوة العقلية”، وهو المصري الذي عاش كأستاذ يعلّم العربية في جامعة برلين في نهاية القرن التاسع عشر. والكتاب هو عبارة عن شهادة توضح التغيّرات التي رافقت التطورات في القاهرة وبرلين.

اختيرت فترة الدراسة، ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، في مرحلة كان العالم فيها يدخل ضمن تغييرات جذرية، وهي اختراع الآلة البخارية والسكك الحديدية والتلغراف، وهذا ما زاد في التواصل ما بين المناطق في الدولة الواحدة وما بين دول العالم. فالرحلة ما بين القاهرة وبرلين، والتي كانت تحتاج إلى شهر للوصل من إحدى المدينتين إلى الأخرى، بحلول العام 1870 باتت تستغرق ما بين ثمانية إلى إحدى عشر يوماً. وقد تنقل ما بين المدينتين أشخاص من مختلف فئات المجتمع ومن جميع المهن والوظائف الحكومية.

يتناوب الكاتب في الدراسة ما بين برلين والقاهرة في الفصول المتتالية. فيبدأ بالسؤال حول ما هو الحب؟ وحول التأثيرات الأخلاقية التي جلبتها الثورات المتتالية في أوروبا على بروسيا، هذا مع العلم أن برلين كانت في القرن التاسع عشر عاصمة الإمبرطورية البروسية والتي لم تتخذ حجمها النهائي بوصفها ألمانيا بعد.

يبدأ البحث من العام 1848 تقريباً. حيث ابتدأ تأثير ثورات أوروبا وابتدأت الكتابة عنها والتحولات التي رافقتها ابتداءً من خمسينات القرن التاسع عشر. حيث كان تركيز الكتابة عن تأثير التغيير المدني على سكان برلين والتقاليد السائدة في المدينة، والتي كانت بمثابة الصمغ الذي حافظ على تماسك المدينة، كما يصفها بريستل. غير أن ممارسات الحب بدأت تنذر بتغيير النسيج الإجتماعي في المدينة.

وقد أوضح بريستل من خلال كتابات أشخاص عاصروا تلك الفترة في برلين مثل موريتس لاتزاروس، أن دراسة النزاع الناشئ في المجتمع البرليني كان يعتمد على علم النفس الشعبي، وهو يمثّل ما هو شائع ما بين الناس ويعبّر عما هو جماعي أو قبلي أو مدني، ويمارس بشكل اعتيادي وتقليدي ويشرح أهمية الأخلاق.

ويرى موريتس أن الأخلاق لا تنبع من داخل البشر فقط، بل هي إختراع اجتماعي وتكوّنها يخضع إلى عملية قولبة، بناءً على شروط متواجدة مسبقاً، وهي عملية تنشأ عبر مراحل تاريخية. وبالتالي فقدان مشاعر أو تقاليد معيّنة من الممكن أن يكون دليلاً على فقدان قدرة المجتمع على تشكيل أبنائه. وهذا ما عانت منه برلين وهو تراجع المنطق الجامع ومنها التغيير في نظام العمل والهجرة والتغيير الصناعي. والأمر ذاته ينطبق على ما كان يحدث في القاهرة.

إذاً يشرح الكاتب مدى تأثير النهضة الاقتصادية الكبرى التي شهدتها المدينتان والتي كان لها تأثير على تغيّر العمران فيهما واتساعه. والسبب الثاني له علاقة بالهجرات التي شهدتها المدينتان باتجاهما من المناطق الريفية مما أدى إلى نموهما بشكل مطرد خلال فترة قياسية نسبياً.

يبدأ الكاتب في الفصلين الأول والثاني بعرض تاريخي تقريباً، والذي يظهر من خلال تراتبية الأحداث التاريخية السياسية مدى التأثير الذي حملته هذه الأحداث إلى المجتمع. إذ يبدأ بالعرض للتغيّرات السياسية التي نشأت في برلين ومن ثم في القاهرة. حيث يركز على العلاقة التي بين نشأت بين الناس بسبب تدفق المهاجرين إلى كل من المدينتين. كما يركز على تبعات التغيير المدني بين الناس، والذي أدى إلى نشوء علاقات اجتماعية خارجة عما هو مألوف. ففي كلتا المدينتين انتشر البغاء، والذي أطلق عليه في مراحل متقدمة بتجارة الجنس.

ولكن حتى هذه الحالة يناقشها الكاتب من باب العواطف والمشاعر البشرية، والتي ألقت بظلالها على الكتابات الأدبية والثقافية والجرائد والمجلات. وقد احتاجت هذه التجارة إلى التأسيس لقوانين جديدة تنظمها. كما استحدث مكاتب لتنظيم البغاء، سميت بمكتب الآداب في القاهرة والتي كان من أهم واجباتها تنظيم بطاقات للنساء العاملات في هذا المجال وتأمين الفحوص الدورية الطبية لهن، هذا من جهة.

ولكن في الفصول المختلفة نرى التغييرات التي طرأت في المدينتين هي في الجوهر متشابهة وإن كانت لها علاقة بما هو “عرف” يحكم العلاقات المجتمعية في كلتاهما. إذ ارتفع عدد سكان برلين من 419000 إلى 1,131,000 ما بين العامين 1852 و1890. وفي القاهرة ارتفع عدد سكان المدينة من 257,000 إلى 375,000 ما بين عامي 1848 و1882.

تغيرت معظم القواعد التي تحكم العلاقات الإجتماعية، وحدث اختراق وتراجع في التقاليد في برلين، إذ ابتعد شباب وشابات برلين عن الزواج ما بين 20 -30 عاماً بسبب عدم احتمال تكاليف المعيشة، وغلاء أسعار إيجارات البيوت فيها. ولذا سادت في المدينة مظاهر الحب بسبب الحاجة للتعبير عن عواطفهم خلال اللقاءات. وكان يرى “العرف” في برلين على أنه عبارة عن علاقات عاطفي ما بين أهالي برلين وأن ضياع “العرف” هو دليل على انحلال النسيج الإجتماعي، وأن العلاقة أصبحت تشبه العلاقات في باقي المدن والتي باتت كما “الخيط المجهري”.

وأما في القاهرة فقد أدت التطورات التي حدثت إلى تغيّر عادات الرجال، وخاصة أبناء الطبقة المتوسطة التي ظهرت حديثاً، والذين بدؤوا بشرب الخمر وزيارة النوادي الليلية وتقبل مشاعر الحب الذي كان يقدم إليهن من قبل الفتيات العاملات في المقاهي والبارات الليلية، والذي أدى إلى ظهور شرخ في العلاقات داخل العائلة، ما بين الرجل وزوجته.

ومن جهة أخرى ظهرت في برلين قاعات الرقص التي كان يجتمع فيها الشباب والشابات للتعارف، ومختلف الأبنية التي تعنى بالتسلية مثل المقاهي والمطاعم ودور السينما. والمحلات كما محلات قص الشعر وخياطة الثياب وغيرها. غير أن رواد قاعات الرقص كان من بينهم من يبحث عن الجنس مقابل المال، الأمر الذي عرض الكثير من الفتيات إلى مواقف سيئة وتحرشات جنسية، وأحياناً للإعتقال. ولكن يشرح الكاتب أن اللوم في التعرض للفتيات الشريفات كان تحمل أسبابه وعواقبه للرجال في برلين. ولكن، إلى جانب ذلك ظهرت مكاتب لتدبير الزيجات والتي سمحت بالمراسلة ما بين النساء والرجال من أجل التقارب، ولكن دون السماح لهم باللقاءات لأن ذلك يخل بالعلاقات العامة. وذكر هذه المظاهر ليس فقط من أجل التعريف بما حملته المدنية والتغير العمراني، أو حتى افتتاح شارع فريدريش، الذي دخل التنظيم من قبل القيصر البروسي وليتحول إلى مكان للقاء أهالي برلين وهو يزدان بالحدائق للتنزه فيه والتعارف، وإنما هو من أجل بحث الأبعاد النفسية والإجتماعية التي طالت برلين في داخل مجتمعاتها. في حين أن الثورة الصناعية وتوجه الناس للعمل في برلين من القرى كان من أهم الأسباب في ازدياد عدد المهاجرين إليها.

أما بالنسبة إلى القاهرة، فإن التغيير جاء بعد اندلاع الثورة الأهلية في الولايات المتحدة الأميركية في العام 1861، مما أدى إلى تحول الأنظار إلى مصر من أجل تزويد معامل بريطانيا بالقطن الذي انقطع استيراده من الولايات الأميركية الجنوبية. وكان مؤدى ذلك أن انتعش الإقتصاد المصري. وبذا ابتدأ التغيير الذي جاء من خلال بناء مدارس الدولة وافتتاح مدارس عليا من أجل تدريس التعليم والهندسة والطب في القاهرة، فأتاح ذلك تعلّم أبناء الفئات الفقيرة وتحسين مستواهم الإجتماعي. وظهرت وظائف جديدة في التعليم وإدارات الدولة والتي احتاجت إلى توظيف المتخرجين. أدى ذلك إلى نشوء طبقة ميسورة متوسطة في القاهرة. كما قامت الدولة في عهد الخديوي اسماعيل بمد خطوط للسكك الحديدية بين القاهرة والإسكندرية وقناة السويس، سهل تدفق العمال إلى القاهرة؛ وترافق ذلك مع تغيير عمراني في المدينة إذ ازداد حجمها ما بين الأعوام 1850- 1860 بنسبة 20%.

ترافقت التغييرات مع الإحتلال البريطاني لمصر. فقد جاء البريطانيون مع مفهومهم الخاص حول “الشخصية المشرقية”. تحدث البريطانيون عن حجج كثيرة من أجل بسط سلطتهم على مصر ومن ثم على السودان. ومن هؤلاء اللورد كرومر المستشار العام البريطاني في مصر ما بين عامي 1883 و1907.

يتحدث بريستل بكثير من التفاصيل عن المبررات التي أعطاها البريطانيون من أجل فرض سلطتهم على البلاد؛ وأنهم جاؤوا لحمايتها من شر الإستبداد الشرقي وخوفهم مما يتعرض له المواطنون من وحشية على يد حكامهم. ويعقب بريستل أن المصريين تعرضوا لبطش من البريطانيين بأكثر بكثير من أي حاكم في البلاد. ويصوّر كرومر، الذي شغل منصب القنصل البريطاني العام في مصر، العرب بأنهم لا يملكون العقلانية، التي تمكّنهم من التعاطف والتعقل.

وكان بريستل يستند في ذلك إلى ما كتبه ارنست رينان المعروف بكرهه للعرب والمسلمين، والذي يعرض للفكر الغربي المتطرف وما حمله من مآسي للشرق. وكيف عبّرت الكتابات عن الإمتعاض من الطبقات المتوسطة التي كانت مذعنة بطريقة أو بأخرى للإحتلال ولم تكن ترغب بتغيير أسلوب حياتها، والتناقضات التي نشأت بسبب الصراع ضد الإحتلال البريطاني لمصر، والذي كان جلياً من خلال الكتابات الصحافية والأدبية على حد سواء.

يبني الكتاب على تسلسل الأحداث التاريخية بشكل عام، ولكن في المضمون يستند في قراءة التغييرات في المجتمعين في برلين والقاهرة على النتاج الأدبي والفكري الذي ساد في كلا المدينتين. ويقرأ ذلك من خلال كتابات كل من – على سبيل المثال- جمال الدين الأفغاني وعلي مبارك ومحمد عمر، ومن خلال القراءات للمجلات والصحف المصرية والمواضيع التي اهتمت بها. حيث طرحت من خلالها العلاقات الإنسانية ووضع المرأة، بكثير من التفاصيل، حتى أنه يتناول أهمية عذرية المرأة ومفهوم الشرف في مدينة كالقاهرة.

حتى أن الكتاب يلقي الضوء على هذه العلاقات من خلال ملفات الشرطة والقضاء والتي كانت تعني بمعالجة قضايا البغاء، والتهم التي ألقيت على النساء جزافاً، وسهولة اتهامهن بشرفهن. كما يطرح هذه القضايا من خلال قصص حقيقية وشخصيات حقيقية، يعرضها للتحليل والنقاش في محاولة فهم تطور المدينتين.

وفي برلين يحلل الكاتب تاريخ المدينة العاطفي من خلال كتابات هانز اوتسوالد وغيره، والذي كتب عن تطور العلاقات في شارع فريدريش، تماماً كما تحدث عن المظاهر ذاتها التي نشأت في حي الأزبكية. وعن تطور حي شبرا الذي كان يعتبر سكناً للطبقة الغنية ليصبح مدينة صناعية نشأت فيها معامل تصنيع التبغ والتنباك.

من أهم ما يتناوله بريستل في كتابه هو ظهور الطبقة المثقفة، والكتابات التي تناولت تأثير علاقات الحب التي ملأت الشوارع على العقل. وظهر في القاهرة مفهوم المنطق والعقل. في البداية كان مفهوم العقل يرتبط بالقلب، ابتداءً من القناعة بـ”اتباع ما يمليه عليك قلبك”. وكانت هناك دعوات للعقلانية ما بين الرجال والسيطرة على المشاعر والإنفعالات، وظهور مفهوم الشرف والخجل من خلال المحافظة على عذرية الفتيات، وهو مفهوم شرقي كان ذا علاقة بالتطور المدني للطبقة المتوسطة.

واعتبرت المرأة في رواية علي مبارك كرمز للشهوة التي يجب إشباعها والتي اعتبرها جزءاً من طبيعة المرأة العاطفية وأن الرجل هو العقلاني الذي عليه الحفاظ على التوازن في علاقاته.

كتب العديد من المؤرخين حول مدن مثل برلين والقاهرة، وكان النقاش يتمحور حول جغرافيا هذه المناطق أو العلاقة التاريخية مع أوروبا من خلال الحروب والعلاقات الدبلوماسية أو التدخلات من خلال البعثات الدينية أو بشكل مباشر من احتلالها. وكان هذا النوع من الدراسة يعد محاولة لربط التأثير ما بين الشرق والغرب، ومقارنة القاهرة وبرلين من خلال الإمساك بخيوط تجمع المدينتين، كما يقول بريستل. فهو يعتبر أن عمله هو مساهمة كبيرة في دراسة تاريخ المدن العالمي، حيث سنرى أن مسار الأحداث في المدينتين، هو مسار منفصل. ولكن من خلال عرض تاريخ التطور المدني والعمراني فهما تجتمعان في المفهوم التحليلي، وهو اتجاه يأخذ القارئ باتجاه نمط آخر من قراءة تاريخ المدن، من خلال علاقاتها الإنسانية.

ويجد بريستل أن العولمة لم تكن وليدة أواخر القرن العشرين، بل هي وليدة تاريخ أبكر بكثير ابتدأ مع الهجرة، ونشوء القوميات، والتعليم، والعلاقات التجارية المتبادلة ما بين دول العالم.

الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى