ملأ رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، الدنيا جعجعة عن نيّة حكومته تقديم تسهيلات اقتصادية للسلطة الفلسطينية لتقويتها ومنع انهيارها، استجابةً للضغوط الأميركية التي مورست عليه في هذا الإطار، من دون أن ترى رام الله طحيناً حتى اللحظة، في ما يشي بأن الأمر كلّه قد لا يعدو كونه حلقةً جديدةً من مسلسل دعائي مكرور. وبينما يدور الحديث عن نيّة نتنياهو ووزير حربه، يوآف غالانت، إقرار التسهيلات في الأيام المقبلة، بعيداً من موافقة مجلس الوزراء عليها مجتمعاً، حيث لا تزال تلقى معارضة من وزيرَي المالية بتسلئيل سموتريتش، و«الأمن القومي» إيتمار بن غفير، تعكس هذه الخطوة، في حال تَحقّقها، استمرار التعامل الإسرائيلي مع السلطة باعتبارها وكيلاً خدماتياً مدنياً وأمنياً فقط، من دون الاكتراث بأيّ أفق سياسي معها، وهو ما كان جاهر به نتنياهو مجدّداً، بتأكيده للمرّة الألف رفضه «حلّ الدولتين»، وقوله في حديث صحافي: «هذه لن تكون دولة فلسطينية، هذه ستكون دولة بسيطرة إيرانية (…) أنا أقول طوال الوقت إن الطريق الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها اتفاق سلام نهائي مع الفلسطينيين في المستقبل، هي أن تبقى إسرائيل القوة الأمنية العليا في المنطقة، وإلّا فإننا سننهار، وهم سينهارون أيضاً».
بناءً عليه، قد يعلن نتنياهو عن جملة من التسهيلات الاقتصادية للسلطة بالفعل، لكنه لن يكون مضطرّاً لتنفيذها بالكامل، بل يستطيع المماطلة فيها أو إلغاءها تحت أيّ ذريعة، وحتى لو أُنفذت بشكل تامّ، فإنها ستكون من دون أثر بعيد المدى، ولن تشكّل تحوّلاً لصالح استقرار السلطة. ذلك أن إسرائيل تريد الأخيرة بوضعها الحالي: معلّقةً ما بين الحياة والموت، ومنتظرة ما يأتيها من مساعدات، في ما يبدو وكأنه محاولة لترويضها، وإنسائها أيّ أمل بالعملية السياسية التي لا تزال تتشدّق بها. والواقع أن هذا التكتيك يحظى بدعم من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، لاعتقادها أنه قد يسهم في تهدئة الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية المحتلّة، ولجم عمليات المقاومة، والذي يشكّل المطلب الرئيس من السلطة، فيما مطالبها هي، والتي لا تفتأ تقدّم قوائم بها إلى الإدارة الأميركية في محاولة لاستدراج ضغوط على إسرائيل، ومن بينها وقف اقتحامات جيش الاحتلال للمدن، ووقف هدم المنازل في المناطق المصنّفة «ج»، ووقف الاستيطان في الضفة، ومواجهة إرهاب المستوطنين الممارَس ضد الفلسطينيين، لا تتوقّف تل أبيب حتى لقراءتها حتى.
وبالنتيجة، لن تؤدّي التسهيلات المنتظَرة للسلطة، إلّا إلى تشديد قبضة الأخيرة الأمنية في مواجهة المقاومة، وتَخفّف إسرائيل من بعض الضغوط الأميركية في سياق محاولتها تقديم «تنازلات» للبيت الأبيض يمكن تسويقها في مقابل اتفاق التطبيع المنشود مع السعودية. ولا تنكر السلطة حقيقة أن تلك التسهيلات محدودة وغير كافية، بل وسخيفة بحسب وصف البعض، كونها لا تقترب حتى ممّا تطلبه رام الله من خلال اتصالاتها الدائمة مع واشنطن، أو ما اتُّفق عليه في قمّتَي العقبة وشرم الشيخ، في وقت يَجري فيه على قدم وساق الترتيب لقمّة ثالثة من هذا النوع. والحقيقة أن ما تنوي تل أبيب تقديمه ليس سوى حقوق سرقتها هي بنفسها، ومن بينها مثلاً قرض بقيمة 500 مليون شيكل ستسمح للسلطة بالتوقّف عن تسديده، فيما هو في الواقع قيمة ما تقتطعه إسرائيل من أموال المقاصة، والذي يخصّ رواتب الشهداء والأسرى.
كذلك، تأتي الموافقة على تقاسم ضرائب المغادرين الفلسطينيين على معبر الكرامة بالمناصفة، بعد سرقة إسرائيل ملايين الشواكل طوال السنوات الماضية، بينما الحديث عن المنطقة الصناعية في ترقوميا قديم، ولم يسلك سبيله إلى التنفيذ إلى الآن.
على أن تلك الوقائع ليست مفاجئة أو مستغرَبة؛ إذ إن السلطة، ومنذ لحظة ولادتها، وضعت عنقها تحت المقصلة الإسرائيلية، وكبّلت نفسها بـ«اتفاقية باريس» الاقتصادية، وجعلت وجودها عرضة للابتزاز والضغط، وهو ما يتجلّى مثلاً في اقتطاع تل أبيب الملايين من قيمة الضرائب التي تجمعها نيابة عن رام الله عقاباً للأخيرة على توجّهها إلى المحافل الدولية، وتحويلها تلك الأموال أحياناً لصالح عملاء لإسرائيل، أو لمستوطنين قُتلوا في عمليات فدائية. وعلى رغم أن ما قدّمته تل أبيب لرام الله، دائماً، لم يكن سوى فتات، وهو ما ينسحب على الوضع الحالي، فإنها تضع مقابل ذلك أثماناً كبيرة، الأمر الذي يتكرّر اليوم بطلبها من واشنطن ممارسة «ضغوط على الفلسطينيين للعمل ضدّ الإرهاب»، وفقاً لما نشرته «القناة 13»، مساء (الثلاثاء). كما أن خطوتها المنتظرة لا تعدو كونها جزءاً من البروباغندا المطلوبة في مواجهة تصاعد الانتقادات الدولية والحقوقية لها، على ضوء دعمها وتشجيعها لإرهاب المستوطنين.
في المقابل، فإن السلطة لا تزال تتمسّك بما تسمّيه «المشروع السياسي» الهادف إلى انتزاع حقّ الفلسطينيين في إقامة دولة لهم على حدود 1967، على الرغم من أن إسرائيل ألغت عملياً أيّ إمكانية لقيام هكذا دولة بتغوّلها الاستيطاني في الضفة. وأمّا التحرّك الأميركي – الإسرائيلي الآن لاستنقاذها فليس سببه تبدّلاً في تلك الاستراتيجية، وإنّما تصاعد حالة المقاومة في الضفة، والتي فشل الاحتلال في القضاء عليها كما فشل في حصاره على غزة، وهو ما يستوجب اللجوء إلى أساليب أخرى بهدف احتواء الحالة المشار إليها، في ما يذكّر بالاتصالات التي انهالت على السلطة خلال معركة «سيف القدس»، ومن بينها واحد من الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعد تجاهل دام أشهراً. وإذا كانت السلطة تحاول، في كلّ مرّة، تبرير إغراقها في «التنسيق الأمني» بتصدير مطالب تأمل تلبيتها، من مثل وقف الاقتحامات الإسرائيلية لمناطق «أ» الواقعة تحت سيطرتها الكاملة، والتي بسببها ترتفع انتقادات الفلسطينيين للأجهزة الأمنية واتّهاماتهم لها بعدم توفير الحماية لهم، ووقف هدم منازل الفلسطينيين في المناطق «ج» التي تمثّل 60 % من مساحة الضفة، وتقع تحت سيطرة إسرائيلية كاملة، مقابل تشجيع المستوطنين على البناء فيها، ووقف جرائم المستوطنين التي تصاعدت على نحو غير مسبوق في العام الجاري، فالأكيد، على ضوء المعطيات المتقدّمة، أن رام الله لن تتمكّن من نيل أيّ من تلك المطالب.
صحيفة الأخبار اللبنانية