مشكلات الكتابة التاريخيّة في المرحلة الرّاهنة
بدأت كتابة التاريخ على قاعدة تحليل الأساطير القديمة التي كانت سائدة بكثرة في مختلف أرجاء العالَم. ثمّ شكَّلت المرويّات التاريخيّة في مرحلة لاحقة القاعدة الأساسيّة لمصادر الروايات التاريخيّة التي كانت مُتنافرة في غالب الأحيان، وتَخضع لميول الراوي، ومصلحته الشخصيّة، وعلاقاته بأصحاب السُّلطة، ومحاولته التقليل من مرويّات مَن يخالفونه الرأي، فيعمل على نقدها نقداً يفتقر إلى الموضوعيّة.
لذا تداول كثير من الباحثين بيتَين من الشعر يسخران من تصنيف الكتابة التاريخية بصفتها علماً حقيقيّاً، ويُشكِّكان في صدقيّة المرويّات التاريخة برمّتها.
“فَمَا كُتُبُ التَّارِيخِ فِي كُلِّ مَا رَوَتْ لِقُرَّائِهَا إِلاَّ حَدِيثٌ مُلَفَّقُ
نَظَرْنَا لأَمْرِ الحَاضِرِينَ فَرَابَنَا فَكَيْفَ بِأَمْرِ الغَابِرِينَ نُصَدِّقُ!”
في مرحلة التاريخ الحديث والمُعاصر أصبحت الكتابة التاريخية مُختبراً حقيقياً لنقل أخبار السلف بأشكال عدّة منها الوثائق المكتوبة، والرواية المُتداوَلة، ونقد الراوي والمرويّات، ونقد مغالط المؤرّخين، والحرص على الإسناد الجيّد، وحسن التأويل، وجمال السرد الروائي، والبراعة في وصف الأحداث، وإتقان فنّ التحليل والتعليل وتفسير المعطيات التاريخية، وسلاسة التحقيب في تدوين الزمن التاريخي، وإظهار حركة التاريخ، واستخلاص الحِكم من فلسفة الأحداث، والتعلّم من دروس التاريخ، وكثير غيرها. فبات على المؤرّخين اليوم اعتماد الإيجاز في الكتابة التاريخية، وفي سرد الأحداث واستخلاص دروس التاريخ على قاعدة أنّ “الأمثال حِكمة الأجيال”.
تجدر الإشارة إلى أنّ التراث العربي يختزن كمّاً هائلاً من النصائح التي تُطالب بالاختصار. منها، على سبيل المثال لا الحصر: اختصر، أو مُختصَر مفيد، أو خير الكلام ما قلّ ودلّ، أو قُلْ كلمتك وامشِ… وهناك كُتب كثيرة ذات طابع أكاديمي تُعالِج فنّ الإيجاز في مختلف مجالات المعرفة، ومنها الكتابة التاريخية التي بات التطويل فيها غير مُبرَّر. ولم يَعُد مألوفاً أن يُعالِج مؤرّخ واحد موضوعاً واحدأ أو تاريخ بلدٍ واحد في أجزاء عدّة كانت تتجاوز سابقاً العشرين جزءاً في بعض الأحيان. فغالباً ما تقود الإطالة في سرد الأحداث إلى مغالط كثيرة تُخرِج الكتابة التاريخية من دائرة البحث العلمي الرصين إلى دائرة السرد المُملّ من دون ضوابط في الشكل، والمضمون، والمنهج.
بات اعتماد الإيجاز في الكتابة التاريخية الموثَّقة والمُسنَدة مسألة ضرورية تنصح بها دُور النشر بشدّة لكي تتمّ الاستفادة من الدراسات التاريخية المكثَّفة في تحويل المعطيات أو الأحداث إلى نصّ علميّ متماسك يجذب القرّاء، ويُشكِّل مدماكاً صلباً في بناء مجتمع المعرفة العربي. فالإيجاز علم وفنّ، هدفه تقديم الحدّ الأقصى من المعلومات من خلال الحدّ الأدنى من الكلمات، مع ما يستوجب الحفاظ على مضمون الرواية التاريخية بعد تعريتها من الشوائب أو ما أطلق عليه ابن خلدون في مقدّمته صفة: “مغالط المؤرّخين”.
ومن خلال الإيجاز في سرد الرواية التاريخية يُبرِز المؤرِّخ المعطيات الأساسية فيها من دون الدخول في التفاصيل من جهة، ومن دون الإخلال في تناسق تلك المعطيات من جهة أخرى. فيُحقِّق الإيجاز غايته من خلال الابتعاد عن الإطالة المُملّة أو الإيجاز المُخلّ بالرواية، وتتحقَّق معه نصيحة حكماء العرب من دراسة التاريخ واستخلاص الدروس منه، والتي تتلخَّص بعبارة: “إنّ مَن يدرس التاريخ يضيف أعماراً إلى عمره”.
يختلف الإيجاز في الكتابة التاريخية عن غيره من فنون المعرفة البشرية. وهو يعتمد تقديم المعطيات التاريخية من خلال تكثيف الأخبار، وتحليلها، وإبراز الإشكالية العلمية، والفرضيات الموضوعية، والإستنتاجات الدقيقة. وذلك يتطلّب اختيار أفضل أسلوب لغوي يتلاءم مع طبيعة المادّة التاريخية من حيث الوصف السردي، والتحليل العلمي، والإيجاز اللّغوي. وتلعب الصياغة اللّغوية المكثَّفة دَوراً أساسياً في تنسيق الكلام، وحسن تنظيم الجمل اللّغوية، واعتماد السهل المُمتنع في مجال التفسير والتحليل والتعليل والاستنتاج تبعاً لفروع الكتابة التاريخية. ويحتاج الإيجاز في كتابة التاريخ إلى خبرة واسعة، واعتماد الإبداع أو الابتكار الذي يُظهر قدرة المؤرِّخ على كتابة النصّ وتوظيفه في سياقٍ معرفيّ بحيث تتبلور مهارة المؤرِّخ في إيجاز نصّه وتوظيفه على قاعدة مُعتمَدة في الكتابة التاريخية وغيرها من أنواع المعرفة، وهي تتلخّص بعبارة “الأسلوب هو المؤرِّخ”، أي تجسيدٌ لشخصيّته. على أن يُمارِس المؤرِّخ الإيجاز في السرد والتحليل، فينتقي كلماته بدقّة متناهية بحيث لا يمكن حذف أيّ كلمة من دون الإخلال بالشكل والمضمون معاً. فيُعبِّر الإيجاز بوضوح عن مضمون المقولات النظرية بصورة لغوية مدهشة. وخير مثال على ذلك عبارة ابن خلدون في وصف التاريخ: “التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، لكن في باطنه نظر وتحقيق”. وهي مقولة علميّة رائدة تحتاج إلى دراسات مستفيضة لشرح أبعادها النظرية ومضامينها غير المحدودة. وغالباً ما يوصَف الإيجاز في الكتابة التاريخية بأنّه تعبير عن التبدّلات الأساسية للوقائع التاريخية في كلمات قليلة، من دون الإخلال بالمضمون العامّ لتلك الوقائع. إلّا أنّ حجم الإيجاز يختلف بين مؤرِّخ وآخر في مجال سرد المعطيات التاريخية، واختيار الوثائق الدالّة عليها، والتي تشكِّل مرجعية تاريخية مُسنَدة.
الإيجاز التاريخي كعِلم وفنّ
لعلّ أبرز الأهداف المتوخّاة من الإيجاز التاريخي أن تنتقل دروس التاريخ من جيل إلى جيل عبر نماذج تاريخية مكثّفة جدّاً ومُسندَة بالوقائع الدّامغة لتستقرّ في ذاكرة الناس وتتحوّل إلى حِكمة، أو مثل شائع، أو بيت مفرد من الشعر تردّده أجيالٌ متعاقبة. والإيجاز التاريخي فنّ يختصر مسار الكتابة التاريخية بأكمله من خلال نصٍّ مكثّف جدّاً لمؤرِّخ فذّ يختصر تاريخ شعب بأكمله، أو أقصوصة مميَّزة ذات دلالات تاريخية رائعة، أو أبيات من الشعر تشكِّل تكثيفاً قلّ نظيره لتوصيف حدث معيّن، أو مسيرة قائد بارز.
بعبارة موجزة، الإيجاز في الكتابة التاريخية علمٌ وفنّ. وهو يعتمد مبدأ الاقتصاد اللّغوي الذي يُلزِم المؤرِّخ بتقديم معلومات غنيّة في كلمات أو جمل محدودة. وذلك على غرار ما نصح به ابن خلدون في مقدّمته النظريّة المهمّة التي حلَّل فيها بدقّة “فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرّخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها”. فرسم أطوار الدولة الإسلامية في زمانه بعبارات موجزة أظهرت التحالف الثابت بين العصبية السياسية مع العصبية الدينية، وأَفرَد صفحات رائدة لدراسة طبيعة البداوة المتوحِّشة التي لا تنتهي وظائفها إلّا بالإستقرار وترسيخ العمران الحضري.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ نصّ ابن خلدون في مقدّمته كان مختلفاً تماماً عن نصّه في مؤلّفه المعروف: “كِتاب العِبَر في أخبار العرب والعجم والبربر”. فـ”المقدّمة” تتضمَّن نماذج مهمّة عن الإيجاز في الكتابة التاريخية، والذي لم يكن مُعتمَداً في زمانه، في حين أنّ “كِتاب العِبَر” سرد مطوّل في أجزاء عدّة. وقد اعتمد ابن خلدون فيه الأسلوب التقليدي في كتابة التاريخ الذي كان سائداً في زمانه على غرار كتابات الطبري، والبلاذري، والمسعودي، والواقدي، وكثير غيرهم. فلم يحظَ كتابه المنشور بأجزاء عدّة بما حظيت به مقدّمته التي تُرجمت إلى كثير من لغات العالَم، وأَحدثت نقلة نوعية ما زال تأثيرها كبيراً في الكتابة التاريخية المُعاصرة. فقد تضمَّنت مقولات نظرية قُدِّمت موجَزة بشكلٍ رائع ومكثَّف في بعض نصوصها، إلى جانب الحرص الشديد على تقديم مقولات نظرية معمَّقة تساعد على فهم حركة التاريخ وتبدّلاتها المستمرّة على غرار ما وصف به العصبية، والبداوة، وأطوار الدّولة الإسلامية.
على جانب آخر، تحدَّث حكماء العرب عن عِبَر التاريخ. واستفاض فيورباخ في تحليل المادّية التاريخية وأثرها في مراحل تطوّر المجتمعات البشرية. وقدَّم هيجل تحليلاً فلسفياً للدروس المُستفادة من كتابة التاريخ. وعالج كارل ماركس وفردريك إنجلز الصراع الطبقي على خلفيّة اقتصادية – اجتماعية تُظهر تداخل البناء التحتي والبناء الفوقي. وطوَّر ماكس فيبر الكتابة التاريخية في مجال العلاقة البنيوية المُتداخِلة بين الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية. وحلَّل بعُمق الإرث التاريخي المستمرّ في الدولة الباتريمونيالية. ورَسَم بليخانوف بدقّة دَور الفرد في التاريخ ومدى تأثيره في تغيير الوقائع التاريخية. وقدَّم عبد العزيز الدّوري دراسة مميّزة عن “التكوين التاريخي للأمّة العربية” مع التركيز على تداخل العامل الديني، والعامل القَبلي، والعامل الاقتصادي في ذلك التطوّر. وهي مؤلّفات مفردة نُشر كلٌّ منها في كِتاب واحد وليس في مجلّدات أو أجزاء متعدّدة. لكنّ الفائدة منها كانت كبيرة جدّاً، وما زال يتربّى عليها المؤرّخون الجُدد في مختلف دُول العالَم.
وتحتلّ دراسة هيجل عن “العقل في التاريخ” مكانة متميّزة في دراسة أنواع الكتابة التاريخية بصورة علمية رصينة، وبأبعاد عقلانية. فقد رَسَم فيها حدود التلاقي والاختلاف بين الرواية التاريخية كما حصلت على أرض الواقع، والكتابة الروائية المُسنَدة إلى وقائع تاريخية. وحلَّل بدقّة مدى علاقة الرواية التاريخية بالتاريخ الحقيقي وبأحداثه الواقعية.
وأظهر الفارق النَّوعي بين التاريخ الأصلي الذي يكتبه المؤرِّخ ويدوِّن فيه الوقائع التاريخية الموثَّقة بدقّة، وبين الرواية التاريخية التي يُطلق عليها “رواية الواقع”، لكنّها ترسم صورة الواقع كما تخيّلها الروائي من خلال قراءته لكُتب تاريخية محدَّدة. ولا يتّسع المجال هنا للغوص في تحليل الفارق النَّوعي بين الكتابة التاريخية من جهة، والروايات المُسنَدة إلى المرويّات التاريخية من جهة أخرى. علماً أنّ الفنون الأدبية كثيراً ما تستند إلى التاريخ في أعمالها المميَّزة، ومنها، المسرح، والأوبرا، والشعر، والقصّة القصيرة، والرواية، والأقصوصة، وغيرها. وهناك نماذج كثيرة تُظهر أهمّية الإيجاز في الكتابة التاريخية، وفي أعمال أدبية مُسنَدة إلى وقائع تاريخية موثَّقة بصورة جيّدة.
ختاماً، يُشكِّل الإيجاز في الكتابة التاريخية اليوم ضرورة ثقافية ملحّة لأنّ الأجيال الشابّة تُعرِض عن قراءة المجلّدات الكبيرة والمتعدّدة الأجزاء. وهي منصرفة إلى اكتساب الثقافات السهلة والمتداوَلة يوميّاً عبر وسائل الاتّصال الحديثة. ولم يَعد بمقدور مَن تبقّى من دُور النشر، التي كانت كثيرة العدد ثمّ تضاءل وجودها بصورة واضحة، أن تتحمّل نفقات الطباعة لمرويّات تاريخية على غرار المسلسلات التلفزيونية التي استُهلكت لكثرة تكرارها وباتت تشكّل سدّاً منيعاً أمام التجدّد الثقافي والإعلامي على المستوى العالمي. فثقافة التسلية الاستهلاكية تعتمد الإطالة المُملّة وغير المُبرَّرة ، في حين أنّ ثقافة الإيجاز العلمي في الكتابة التاريخية تشكّل قاعدة صلبة للتطوير الثقافي وبناء مجتمع المعرفة على امتداد العالَم العربي.
*مؤرّخ وكاتب لبناني
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)