مصر والاتحاد الأوروبي: إمساك العصا من المنتصف (مصطفى اللباد)
مصطفى اللباد
انتهى اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذي عقد في بروكسل أول من أمس لبحث الأوضاع في مصر، بقرار ضعيف نسبياً مفاده «وقف الترخيص بتصدير معدات عسكرية تستفيد منها مصر بسبب أعمال العنف». وانتقد وزراء الخارجية الأوروبيون الإجراءات «غير المناسبة» التي استخدمتها قوات الأمن المصرية، في حين لم يجمد الاتحاد أياً من المساعدات التي تحصل عليها مصر. وإذ اعتبرت وسائل إعلام مصرية ما جرى بأنه «انتصار لمصر» وقيمت القرار بأنه «مطمئن تماما»، تعتقد هذه السطور أن قرار الاتحاد الأوروبي يمسك العصا من المنتصف بحيث يستعصي على التقدير الإيجابي تماماً، وذلك بسبب وجود «ملف مصري» على طاولة الاتحاد الأوروبي، وعلى التقدير السلبي الخالص بسبب التدني الواضح لمنسوب التوتر في القرار الأخير.
خصوصيات الموقف الأوروبي من مصر
لن يفصم الاتحاد الأوروبي عرى التحالف الأطلسي الأوروبي – الأميركي من أجل عيون مصر أو طرف شرق أوسطي آخر، بسبب عمق المصالح وتداخل نظرة الطرفين الأميركي والأوروبي إلى القضايا العالمية. ولكن في الوقت نفسه تلعب الجغرافيا دورها الكبير في إبراز تمايزات في مواقف الطرفين من قضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بسبب القرب الجغرافي للشرق الأوسط من القارة الأوروبية وبعده الجغرافي عن واشنطن. ويعني ذلك أن مخاطر الشرق الأوسط تؤثر بشكل أكثر مباشرة في أوروبا، في حين تحتمي أميركا خلف المحيط بمسافة جغرافية لا تجعلها محلاً لتأثير مباشر في أمنها وكيانها مقارنة بأوروبا. ويكفي للتدليل على ذلك بوطأة العامل الديموغرافي، لأن اضطرابات واسعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد تؤدي إلى هجرة جماعية بالملايين عبر المتوسط، ما قد يشكل تحدياً لا يمكن صده لدول الاتحاد الأوروبي. أيضاً فارق القوة الأميركي يجعل واشنطن في وضع راسم السياسات العالمية، في حين أن الاتحاد الأوروبي بمشاكله الاقتصادية والصعوبات النسبية لتجانسه السياسي بين الدول الأعضاء (28 دولة) لا يملك هذه الوضعية بأية حال. لذلك يتبنى الاتحاد الأوروبي الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط: أمن الطاقة وأمن إسرائيل وتثبيت أنظمة سياسية تدين للغرب بالولاء. رسمت واشنطن تقديراتها على أساس وجود جماعة «الإخوان المسلمين» في السلطة، ومع إطاحتها، يبدو الأمر تحدياً كبيراً لخطتها الشرق أوسطية عموماً، وليس المصرية فقط. أما الحال لأوروبا فلا يبدو بهذا القدر من التعقيد، لأنه يصعب القول بوجود سياسة شرق أوسطية أوروبية من الأساس، ناهيك عن تصادمها أو حتى تنافسها مع السياسة الأميركية. ويؤدي ذلك إلى تقديرات موقف في بروكسيل متمايزة لما يدور في مصر، ولكن دون أن ترتقي لمواقف ضدية مع واشنطن. لذلك يعمد الاتحاد الأوروبي القريب جغرافياً والأضعف سياسياً مقارنة بواشنطن إلى إدارة مصالحه على ضوء أمن النفط وأمن إسرائيل، مع إضافة عاملي الديموغرافيا والتجارة (الشريك التجاري الأول لمصر) إلى قائمة الاعتبارات الحاكمة لقراراته حيال مصر.
مضمون القرار الأوروبي الأخير
خرج قرار وزراء الخارجية في الاتحاد الأوروبي ضعيفاً إلى الحد الذي يمكن اعتباره «تهديداً» للموقف المصري الحالي، فلم توقف المساعدات الاقتصادية ولم تطرح شروطاً أو مهلة زمنية على الدولة المصرية. تدرج موقف الاتحاد الأوربي من مصر هبوطاً، من التنديد بإطاحة محمد مرسي أوائل الشهر الماضي، إلى محاولة التوسط بين جماعة «الإخوان المسلمين» والمؤسسة العسكرية عبر زيارة مسؤولة العلاقات الخارجية بالاتحاد إلى القاهرة في الأسبوع الثاني من الشهر الماضي واللقاءات التي جمعتها خلال الزيارة بقيادات جماعة «الإخوان المسلمين» والرئيس المعزول محمد مرسي وأيضاً القيادة العسكرية المصرية، وانتهاء بعرض وساطة أوروبية جديدة على استحياء (في حالة وجود رغبة مصرية في ذلك)، ومن ثم الخروج بقرار متدني التأثير نسبياً في ما يبدو إمساكاً بالعصا من المنتصف. لم تخرج أوروبا عن التحالف الأطلسي فهي تجتمع وتتخذ «إجراءات عقابية» من نوع ما، ولكن بدرجة أقل كثيراً من الإجراءات الأميركية بعدم توريد طائرات بعينها أو وقف مناورات مشتركة، ولكن أيضاً دون الوصول إلى وقف المساعدات.
كما أكد البيان الأوروبي أن القاهرة تعد «شريكاً هاماً للاتحاد الأوروبي» مثلما ندد بالعنف في سيناء والاعتداء على الكنائس المصرية، في تلميح واضح إلى مسؤولية غير مباشرة لجماعة «الإخوان المسلمين» عنهما. وبدا واضحاً أن الاتحاد يخشى من فقدان نفوذه في القاهرة، خصوصاً بعد توفر بدائل مالية للقاهرة في الفترة الأخيرة.
الخلاصة
بالرغم من انخفاض منسوب التوتر في قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بشأن مصر، ووضوح القدرات المحدودة نسبياً للاتحاد في التأثير سياسيا في صنع القرار في مصر، إلا أن اوروبا هي الشريك التجاري الأول لمصر في العالم. كما أن الكتلة الأوربية تملك صوتين دائمين في مجلس الأمن، وتؤثر إلى حد كبير نسبياً على الرأي العام العالمي. وبالتالي لا يمكن الارتكان إلى المعرفة بالتمايزات الأوروبية عن مثيلاتها الأميركية ومخاوفها الأساسية لتصوير الوضع بأنه مريح ومطمئن كما تفعل وسائل الإعلام المصرية. هناك ملف مصري على طاولة الاتحاد الاوروبي وعلى الأجندة العالمية راهناً، وهو لم يلغ ولم يسحب من التداول انتظاراً لانقشاع الغبار عن الساحة المصرية ورؤية موازين القوى الجديدة على الأرض. بمعنى أن الاتحاد الأوروبي المتدرج هبوطاً في الشهر الأخير بمواقفه المصرية سيعود للتصعيد مع تغير موازين القوى الراهنة، وهو أمر لا يدعو للارتياح بالضرورة. كما أن الإدارة المصرية للأزمة تبدو غير مضبوطة تماماً على إيقاع موحد، مع تدخل وسائل الإعلام الخاصة في إدارة الأزمة بشكل غير مسبوق. ويظهر ذلك في رغبة القنوات المصرية الخاصة بإرسال الوفود وترجمة البث إلى اللغة الإنكليزية رغبة في «توضيح الصورة الحقيقية لما يجري في مصر» للغرب، أو سخرية بعضها الآخر من قرار الدانمارك بوقف مساعداتها لمصر والبالغة أربعة ملايين يورو. والحال أن حملة «توضيح الصورة» إياها تفترض الغفلة في الدول الكبرى، وأن تعديل مواقفها يمكن الوصول إليه ببث لساعات باللغة الإنكليزية أو إرسال وفود مصرية شعبية إلى عواصم الغرب لشرح الموقف المصري. ترسم الدول الكبرى سياساتها على هدي من مصالحها، وتملك معرفة دقيقة عن الوضع من خلال مراسليها وسفاراتها ومؤسساتها وأجهزة مخابراتها العاملة في مصر، وبالتالي فهي ليست غافلة عما يجري بأي حال. أما السخرية من حجم مساعدات الدانمارك، فهو أمر لا يشينها بقدر ما يدين الدولة المصرية لقبولها هذه المساعدات بهذا الحجم من الأساس. أوروبا ليست في حاجة إلى وفود لإيضاح الصورة عما يجري في مصر، وإنما إلى رؤية خريطة الطريق التي وضعتها السلطة الجديدة في مصر وهي تتحقق. وفوق كل ذلك تؤدي التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، بحيث يمكن أن تنضم دول أكثر وزناً إلى قائمة الدول غير المؤثرة التي عاقبت مصر حتى الآن، ما يجعل الصورة أكثر قتامة مما يجري الترويج له إعلامياً في مصر. تخطئ السياسة الخارجية المصرية كثيراً إذا أدارت علاقاتها الدولية بهذا المنطق السطحي، وإذا قاست العلاقات مع الدول بميزان حجم المساعدات فقط، وإلا تدحرج الوضع المصري وإدارته إلى ما يشبه محل البقالة، وهي صفة وصم بها خيرت الشاطر، الرجل القوي في جماعة «الإخوان المسلمين» في السابق، ومن غير اللائق تكرارها الآن. ينبغي أن يكون موقف الاتحاد الأوروبي مـــــن مصر فرصة لتفعيل سياستها الخارجية، بدلاً من النظر إليه سلباً أو إيجاباً بطريقة متسرعة وسطحية. والصمود في ملفــــات السياسة الخارجية لا يتطلب حسماً في مواجهة الميكــــروفون أو صلابة إعلامية في الداخل أو توجيه الوفود الإعلامية إلى الخارج؛ بقـــــدر ما يتطلب حسن إدارة للأوراق ووعياً بالمصالح المتضاربة في مواقـــف الأطراف الدولية، واختيار الجرعة المناسبة والفعــــالة للتعبير عن هذه الإدارة الرشيــــدة في المواقف المختلفة. من دواعي القــــلق أن هذه الأمور غير متبلورة في الحالة المصرية حتى الآن، بالرغم من المنسوب المتدني للتوتر في قرار الاتحاد الأوروبي الأخير.