معان تقاربت حتى أشكل الفرق بينها
يفتتح الأديب والناقد واللغوي أبوهلال العسكري أحد علماء القرن الرابع الهجري كتابه الممتع والثري خطبة كتابه “الفروق في اللغة” مشيرا إلى أنه ما رأى نوعا من العلوم وفنا من الآداب إلا وقد صنف فيه كتب تجمع أطرافه وتنظم أصنافه إلا الكلام في الفرق بين معان تقاربت حتى أشكل الفرق بينها نحو: العلم والمعرفة، والفطنة والذكاء، والإرادة والمشيئة، والغضب والسخط، والخطأ والغلط، والكمال والتمام، والحسن والجمال، والفصل والفرق، والسبب والآلة، والعام والسنة، والزمان والمدة، والنبي والرسول. وما شاكل ذلك فإني ما رأيت في الفرق بين هذه المعاني وأشباهها كتابا يكفي الطالب ويقنع الراغب مع كثرة منافعه فيما يؤدي إلى المعرفة بوجوه الكلام والوقوف على حقائق معانيه والوصول إلى الغرض فيه.
ويقول إنه عمل هذا الكتاب – الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة – مشتملا على ما تقع الكفاية به من غير إطالة ولا تقصير وجعلت كلامي فيه على ما يعرض منه في كتاب الله وما يجري في ألفاظ الفقهاء والمتكلمين وسائر محاورات الناس، وتركت الغريب الذي يقل تداوله ليكون الكتاب قصدا بين العالي والمنحط وخير الأمور أوسطها، وفرقت ما أردت تضمينه إياه من ذلك في ثلاثين بابا.
ويضيف العسكري “الشاهد على أن اختلاف العبارات والأسماء يوجب اختلاف المعاني أن الاسم كلمة تدل على معنى دلالة الإشارة وإذا أشير إلى الشيء مرة واحدة فعرف، فالإشارة إليه ثانية وثالثة غير مفيدة، وواضع اللغة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد، فأن أشير منه في الثاني والثالث إلى خلاف ما أشير إليه في الأول، كان ذلك صوابا فهذا يدل على أن كل اسمين يجريان على معنى من المعاني وعين من الأعيان في لغة واحدة، فأن كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر وإلا لكان الثاني فضلا لا يحتاج إليه.
وإلى هذا ذهب المحققون من العلماء وإليه أشارد المبرد في تفسير قوله تعالى “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”، قال فعطف شرعة على منهاج لأن الشرعة لأول الشيء والمنهاج لمعظمه ومتسعه، واستشهد على ذلك بقولهم شرع فلان في كذا إذا ابتدأه وأنهج البلى في الثوب إذا اتسع فيه. قال ويعطف الشيء على الشيء وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد إذا كان في أحدهما خلاف للآخر، فأما إذا أريد بالثاني ما أريد بالأول فعطف أحدهما على الآخر خطأ. العز يتضمن معنى الغلبة والامتناع على ما قلنا، فأما قولهم عز الطعام فهو عزيز فمعناه قبل حتى لا يقدر عليه، فشبه بمن لا يقدر عليه لقوته ومنعته لأن العز بمعنى القلة
ويرى أن ما يعرف به الفرق بين هذه المعاني وأشباهها فأشياء كثيرة منها اختلاف ما يستعمل عليه اللفظان اللذان يراد الفرق بين معنييهما، ومنها اعتبار صفات المعنيين اللذين يطلب الفرق بينهما، ومنها اعتبار ما يؤول إليه المعنيان، ومنها اعتبار الحروف التي تعدي بها الأفعال، ومنها اعتبار النقيض، ومنها اعتبار الاشتقاق، ومنها ما يوجبه صيغة اللفظ من الفرق بينه وبين ما يقاربه، ومنهما اعتبار حقيقة اللفظين أو أحدهما في أصل اللغة. فأما الفرق الذي يعرف من جهة ما تستعمل عليه الكلمتان فكالفرق بين العلم والمعرفة، وذلك أن العلم يتعدى إلى مفعولين والمعرفة تتعدى إلى مفعول واحد فتصرفهما على هذا الوجه، واستعمال أهل اللغة إياهما عليه يدل على الفرق بينهما في المعنى وهو أن لفظ المعرفة يفيد تمييز المعلوم من غيره ولفظ العلم لا يفيد ذلك إلا بضرب آخر من التخصيص في ذكر المعلوم.
أما الفرق الذي يعرف من جهة صفات المعنيين فكالفرق بين الحلم والإمهال، وذلك أن الحلم لا يكون إلا حسنا والإمهال يكون حسنا وقبيحا. وأما الفرق الذي يعرف من جهة اعتبار ما يؤول إليه المعنيان فكالفرق بين المزاج والاستهزاء وذلك أن المزاج لا يقتضي تحقير الممازج ولا أعتقد ذلك فيه ألا ترى أن التابع يمازج المتبوع من الرؤساء والملوك فلا يدل ذلك منه على تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم ولكن يدل على استئناسه بهم. والاستهزاء يقتضي تحقير المستهزأ به فظهر الفرق بين المعنيين بتباين ما دلا عليه وأوجباه.
ويواصل العسكري توضيح الفروق من جهاتها المختلفة: جهة الحروف، جهة اعتبار النقيض، جهة الاشتقاق، جهة توجيه صيغة اللفظ، جهة اعتبار أصل اللفظ في اللغة وحقيقته فيها.. إلخ. ويتابع بالفرق بين: الاسم والصفة، الصفة والنعت، الصفة والحال، الوصف والصفة، التحلية والصفة، الاسم والحد، الحد والحقيقة، الحد والاسم، الحقيقة والذات، الحقيقة والحق، الحقيقة والمعنى، المعنى والموصوف، الغرض والمعنى، الكلام والتكليم، المتكلم والكلماتي، الكلمة والعبارة.. إلخ، حتى يصل إلى الباب الثلاثين في الفرق بين أشياء مختلفة.
ويوضح الفرق بين القلب والبال قائلا “إن القلب اسم للجارحة وسمي بذلك لأنه وضع في موضعه من الجوف مقلوبا، والبال والحال وحال الشيء عمدته، فلما كان القلب عمدة البدن سمي بالا فقولنا بال يفيد خلاف ما يفيده قولنا قلب يفيد أنه الجارحة التي وضعت مقلوبة أو الجارحة التي تنقلب بالأفكار والعزوم، ويجوز أن يقال إن البال هو الحال التي معها، ولهذا يقال اجعل هذا على بالك وقال امرؤ القيس:
اختلاف العبارات والأسماء يوجب اختلاف المعاني
فأصبحت معشوقا وأصبح أهلها
عليه القيام سيء الظن والبال
أي سيء الحال في ذكرها، وتقول هو في حال حسنة ولا يقال في بال حسن، فيفرق بذلك. الفرق بين الحال والبال أن قولنا للقلب بال يفيد أنه موضع الذكر والقلب يفيد التقليب بالأفكار والعزوم على ما ذكرنا.
وفي الفرق بين العز والشرف يقول العسكري “إن العز يتضمن معنى الغلبة والامتناع على ما قلنا، فأما قولهم عز الطعام فهو عزيز فمعناه قبل حتى لا يقدر عليه، فشبه بمن لا يقدر عليه لقوته ومنعته لأن العز بمعنى القلة، والشرف إنما هو في الأصل شرف المكان ومنه قولهم أشرف فلان على الشيء إذا صار فوقه ومنه قيل شرفة القصر وأشرف على التلف إذا قاربه، ثم استعمل في كرم النسب فقيل للقرشي شريف وكل من له نسب مذكور عند العرب شريف، ولهذا لا يقال لله تعالي شريف كما يقال له عزيز.
وقال في الفرق بين السيد والصمد أن السيد المالك لتدبير السواد وهو الجمع وسمي سوادا لأن مجتمعه سواد إذا رؤي من بعيد، ومنه يقال للسواد الأعظم ويقال لهم الدهماء لذلك والدهمة السواد، وقولنا الصمد يقتضي القوة على الأمور وأصله من الصمد وهو الأرض الصلبة، والجمع صماد، والصمدة صخرة شديدة التمكن في الأرض، ويجوز أن يقال إنه يقتضي قصد الناس إليه في الحوائج من قولك صمدت صمدة أي قصدت قصدة، وكيفما كان فإنه أبلغ من السيد ألا ترى أنه يقال لمن يسود عشيرته سيد ولا يقال صمد حتى يعظم شأنه فيكون المقصود دون غيره ولهذا يقال سيد صمد ولم يسمع صمد سيد.
يذكر أن لأبي هلال الحسن العسكري جملة من المؤلفات الأخرى، منها: كتاب “جمهرة الأمثال”، وكتاب “معاني الأدب”، وكتاب “من احتكم من الخلفاء إلى القضاة”، وكتاب “التبصرة”، وكتاب “شرح الحماسة”، وكتاب “الدرهم والدينار”، وكتاب “المحاسن في تفسير القرآن” في خمسة مجلدات، وكتاب “العمدة”، وكتاب “فضل العطاء على العسر”، وكتاب “لحن الخاصة” أو “ما تلحن فيه الخاصة”، وكتاب “أعلام المعاني في معاني الشعر”، وكتاب “نوادر الواحد والجمع”، وله رسالة في “الحث على طلب العلم”.
ميدل إيست أون لاين