«معركة إدلب» على الأبواب؟
يتواصل تراكم التعقيدات على جبهة إدلب، وسط تصاعد عمليات القصف الجوي، وما يقابلها من تزايد في استهداف أحياء مدينة حلب، انطلاقاً من مناطق سيطرة المجموعات المسلّحة في ريف حلب الغربي. واستُكمل، خلال الأيام الماضية، التحشيد العسكري على طرفي الجبهات المتوقّع اشتعالُها برياً، ليبدو جليّاً أن إطلاق شارة البدء بات رهناً باللحظة السياسية المناسبة. وحرصت «هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة»، قبل أيام، على تسريب أنباء عن إرسالها تعزيزات برية إلى ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، بالتزامن مع تكثيف استهداف أحياء مدينة حلب بالقذائف والصواريخ، بما يوحي باحتمال شنّها هجوماً استباقياً، فيما كثّف الجيش وحلفاؤه العمليات الجوية، مع التركيز على محورين اثنين: أوّلهما ريف حلب الغربي، والثاني ريف إدلب الجنوبي.
ويمثّل كلّ من المحورين وجهةً محتملةً لأيّ عملية عسكرية كبرى، من دون انتفاء احتمال فتح الجبهتين معاً، ولا سيّما أنهما تحصران بينهما نقاط سيطرة «النصرة» وحلفائها على الأوتوستراد الدولي حلب ــــ دمشق (M5). وبحسب المعطيات الميدانية، يبدو أن قرار دمشق وحلفائها هو إطلاق معركة سريعة الحسم في ريف إدلب الجنوبي؛ إذ بدأ الجيش السوري، مساء أمس، عملية عسكرية برية في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، مع إمكانية أن يمتدّ التصعيد إلى محور ريف حلب أيضاً، حيث تجدّدت أمس الاشتباكات بين الجيش السوري والمسلحين على محور صالات الليرمون شمالي غرب المدينة.
ويشكل استكمال السيطرة على الأوتوستراد المذكور هدفاً أساسياً للجيش في هذه المرحلة، الأمر الذي تضعه دمشق وحلفاؤها في خانة تنفيذ اتفاق «سوتشي» الخاص بإدلب، والذي تأخر تنفيذه لأكثر من عام. وكانت مؤشرات التصعيد والتهدئة في ما يتعلق بإدلب قد تباينت بشدة خلال الشهر الأخير، بما يتركه مفتوحاً على كلّ الاحتمالات. ويكتسي المشهد ضبابية إضافية في ظلّ غياب أيّ مواقف سياسية واضحة من الأحداث على طرفي الجبهة و(خاصة من قِبَل موسكو وأنقرة).
وبدا لافتاً أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، اختار التركيز على مسألة تدفق اللاجئين من إدلب على وجه الخصوص، في كلمته التي ألقاها في القمة الإسلامية المصغرة في كوالالمبور. ونقلت تقارير إعلامية عن إردوغان قوله إن «50 ألف شخص يتوجهون مجدداً من إدلب إلى أراضينا، ولدينا الآن أربعة ملايين لاجئ، وقد يرتفع هذا العدد». وإذا كان هذا التركيز يتماشى في أحد وجوهه مع إصرار أنقرة على التلويح بورقة اللاجئين باستمرار، ومع عودة هذا الملف إلى دائرة الاهتمام العالمي أخيراً، فإنه في وجه آخر يضيء على فائدة تركية متوخّاة من كلّ حدث سوري، حتى ولو كان هذا الحدث بحجم معركة إدلب.
وترى قراءات معمّقة للمشهد العام مصلحة تركية في اندلاع معركة جديدة في إدلب، حتى ولو كانت الصورة توحي بخلاف ذلك. ومن شأن أيّ تقدم جديد للجيش وحلفائه في إدلب أن ينعكس، بطبيعة الحال، انحساراً لسيطرة «النصرة» وحلفائها، بما يخفف عبء تنفيذ التزامات «سوتشي» عن أنقرة. كما تشكل موجات النزوح بدورها فائدة متوخّاة، ولا سيما في ظلّ مساعي اللاعب التركي إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمناطق التي احتلّها أخيراً في شرقي الفرات، تحت اسم «نبع السلام»، أو تلك التي احتلّها سابقاً في عمليتَي «درع الفرات» و«غصن الزيتون».
وتواصل أنقرة سياسة اللعب على التداخل بين مختلف المسارات، بما في ذلك المسار السياسي الذي ضرب موعداً مع جولة جديدة لـ«اللجنة الدستورية المصغرة» لم يتم الإعلان عنه رسمياً، لكنه مرجح في الفترة الممتدة بين 13 و18 من الشهر المقبل. وإذا ما رغبت الأطراف في إنجاح الجولة المقبلة، بما يغير الصورة التي سادت عقب فشل الجولة الماضية، فإن ذلك يعني حتماً ضرورة إرجاء معركة إدلب، أو ضمان حسمها سريعاً قبل الجولة الجديدة.
وغير بعيد عن هذا، يبرز تطور مهم شهدته إدلب خلال الأسبوع الأخير، ويندرج في خانة محاولات «النصرة» الوصول إلى صيغة مع «المجتمع الدولي» تجعلها شريكاً في مستقبل المحافظة. ويتمحور التطور المذكور حول إعلان تشكيلة جديدة لـ«حكومة الإنقاذ»، وهي الذراع الإدارية لـ«النصرة». واختير معظم «وزراء الإنقاذ» الجدد من الدوائر البعيدة عن الضوء، باستثناء اسم وحيد هو إبراهيم شاشو.
وكان لافتاً تركيز «رئيس وزراء الإنقاذ»، علي كدّه، في كلمته التي ألقاها عقب التشكيل، على ملفّي «النزوح والمخيمات»، و«تعزيز دور المجتمع المحلي، والمجالس المحلية». ويبدو جلياً أن هذا التركيز يأتي في سياق محاولات «تحرير الشام» المستمرة للوصول إلى صيغ تعاون مع المنظمات الدولية المانحة، في ظلّ امتناع معظم المنظمات عن تبني صيغة علنية، بفعل تبعية «الإنقاذ» لجماعة مدرجة على لوائح الإرهاب الدولية.
وفي هذا الإطار، جدّدت مصادر «جهادية»، أخيراً، الحديث عن محاولات تشكيل «كيان اندماجي» جديد، في ما يبدو محاولة إضافية لإعادة هيكلة «النصرة» وإدماجها بمكوّنات أخرى، وهي صيغة قديمة لم يكتب لها النجاح. ولا يُتوقع أن يكون مصير المحاولات المستجدة مختلفاً عما سبقه، بفعل جملة تعقيدات وثيقة الصلة بتركيبة «النصرة» وغلبة العنصر «الجهادي» فيها.
وعلى الرغم من ذلك، ترى مصادر سورية معارضة أن احتمال حدوث تغييرات على هذا الصعيد تظلّ واردة، ولا سيّما في ظلّ التصعيد الاقتصادي الأميركي ضد دمشق. ويقول مصدر معارض، لـ«الأخبار»، إن «إقرار قانون سيزر قد يشكل مدخلاً لتعاطٍ أميركي جديد يقوم على تشجيع تدفق الأموال إلى كلّ المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بما فيها تلك الخاضعة لسيطرة تحرير الشام».
وينتظر «سيزر» توقيع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل تحوّله إلى قانونٍ مبرم، الأمر الذي يُرجَّح حصوله في ظلّ تركيز ترامب على سلاح العقوبات في معظم السياسات الخارجية لإدارته. على أن أيّ دخول أميركي مباشر على خط إدلب يتطلّب صيغاً توافقية مع أنقرة، القادرة على التأثير هناك، بشكل يفوق قدرة معظم اللاعبين الآخرين. ومن نافل القول إن أيّ توافق من هذا النوع سيستدعي بدوره تقديم جوائز ترضية أميركية جديدة لأنقرة في شرقي الفرات.
ولا يبدو أن ما تبقى من الوقت أمام إدارة ترامب، قبل بدء السباق الانتخابي الرئاسي، سيكون كافياً لإرساء مقاربات جديدة، ما يرجّح إرجاء استثمار ورقة «سيزر» إلى العام المقبل، ولا سيما في ظلّ احتوائه تفصيلاً شديد الأهميّة يسمح للرئيس الأميركي بـ«رفع هذه العقوبات إذا لمس جدية في التفاوض من قِبَل النظام السوري».
صحيفة الاخبار اللبنانية