مغارة الجبل الغربي” مقاربة في الموضوع والنسيج الروائي
عندما تحدث المفكر أحمد أمين حول الأدب، كان محقًا حين قال: “الأدب: الكلام الفني الممتع الذي يملأ نفس السامع وعواطفه في أي موضوع كان وعلى أي معنى دل وفكرة “الإمتاع” في الآثار الأدبية عبر تحقيق المفارقات والدهشة، فكرة مستقرة منذ القديم، عندما قال أرسطو: “الدهشة هي أول باعث على الفلسفة”، وهو الشأن الذي قال به بول أونيل عن جودة الاستهلال الروائي، والحفاظ على حالة الانتباه المتواصل لدى القارئ بمقولته الطريفة: “أمسك برقبة قارئك”. ثم يرى الناقد المشهور رولان بارت: “أن القارئ ليس هو فقط من يرغب في القصة، بل القصة الجيدة هي التي يجب أن ترغب في قارئها”.
وقد تحقق الإمتاع في رواية “مغارة الجبل الغربي” للروائي د. عمرو منير، عبر المفارقة التي تفجرت في الثلث الأخير من الرواية عبر رحلة البطل الرئيس د. حازم العلي بآلة الزمن لاكتشاف السياق التاريخي للأصل العائلي لقرينين وصديقين “الشحات الليبي” و”الشيخ إبراهيم العلي”، حكم عليهما العرف الاجتماعي بالتباعد، وتأسس عليه مأساة مقتلة الحلم في قران “حازم العلي” لفتاة أحلامه “أصيلة الشحات” في مرحلة العقدة في الرواية وتصعيد حبكتها
كما تأسس الإمتاع في الرواية أيضًا عبر تدفق الحكي وبساطته، وليس هذا عيبًا بل ميزة من الميزات، حيث وظيفة اللغة هي الإيضاح كما يقول الناقد الكبير/على أدهم. فقد جاءت الفكرة متماسكة واضحة مخدومة بعلامات الكتاب الإبداعي الموازية، حيث صدر الروائي الرواية بمقولة جورج برنارد شو: “سامحه، فهو يعتقد أن عادات قبيلته هي قوانين الطبيعة”، وهي مقولة تلقي في روع القارئ قدسية آثار الآباء في تقدير وجدان البعض. وهذا الموقف الشنيع فى إيثار الضلال طالما كان منبعه آثار الآباء، نال عدم تأييد النصوص الشريفة، فهو دليل ضعف الشخصية، وسوء التقدير، وشحوب ضوء العقل، وطمس الفطرة.
إذا أبحر القارئ في المتن الروائي تكشّفت له مصداقية عتبة الرواية المنتقاة بعناية، حيث الرواية ترصد موضوعيًا الواقع الاجتماعي بإيضاح الشأن القبلي في صعيد مصر، وتعاضد وتآزر العائلات لحصاد النفوذ والثروة والمكانة الاجتماعية. وجاء التعبير “الأصل والفصل” حجر عثرة ضد أحلام مشروعة، لتجذر العرف الاجتماعي المشوه في تربة البيئة الاجتماعية، لذلك جاء تعبير الرواية موفقا (ص 119): “يبدو أن مشهد القرية الهادئة ما هو إلا جبل الجليد، قمته مجتمع هادئ هانئ مستقر، ولكن في أسفله مشاكل وتراكمات وصراعات لا حصر لها”، وجاءت صرخة البطل منددة مقارنة بالمجتمع الأميركي (ص 130): “أصول أيه في القرن الواحد وعشرين، نفسي تشوفوا أميركا اللي من غير أصل عامله أيه في الكوكب”.
كما جاء مديح أميركا في موضع أخر في الرواية، حيث احتوت الرواية على مهاد علمي عام، وهو أمر نبيل أن تتحدث الرواية عن سلبية توضحها للعمل على نفيها، وهي سلبية: شحوب رعاية مجال البحث العلمي، رغم دوره المهم في رقي مصرنا الغالية، مقارنة بالمجتمع العلمي الأميركي، دل علي هذا تعبير (ص 53): “كان المعهد – في أميركا – هو الأولوية الرئيسية للدكتور حازم حيث كانت أبحاثه في مجال “فيزياء الكم” تلقى الاهتمام البالغ من إدارة المعهد”.
والروائي كان واعيًا بفضيلة العلم في صناعة الحضارة، تقول الرواية (ص 175): “عالم أضحت مفاتيحه العلم والمعرفة والتكنولوجيا”. ويطرق الروائي على وتر قضية نزيف العقول العربية، وهجرة الموارد البشرية النوعية إلى بلاد الأحلام نتيجة تدهور المستوى العلمي والمعيشي بأوطان العروبة، وشحوب بيئة التحفيز العلمي، كما نصت الرواية عن متاعب الأكاديميين حيث المناخ العروبي مقبرة النبوغ.
الروائي اعتمد في قطاع روائي دون آخر، فكرة وجهة النظر، حيث يرى القارئ الحدث والوصف من عين الرائي، وهو هنا الشخصية الروائية، بما يحقق فضيلة سردية وحقق السرد الإنصاف والتوازن فى الرؤية لبلاد العسل والأحلام بين التهوين والتهويل، فرغم إحتفاء الرواية بالبيئة العلمية، ونفى العصبية بالأصول بالبيئة الأميركية، وضحت الرواية سقوط البطل الروائي بين مطرقة بلد الأوهام المسمى زيفًا بلد الأحلام، حيث الفقد العاطفي، وسندان الوطن الذي يحيا أهله “في طور أهل الكهف” بتعبير الرواية، حيث المحرمات الاجتماعية بتعبير الرواية، بتجريم التقارب بين طبقات اجتماعية متباينة بالمصاهرة، نتيجة الوضعية القبلية المتكلسة.
ويزداد عمق المأساة عندما يقتني المظلوم خطاب ظالمه، ويستكين له تمامًا، ويرى أن له كل الحق في العصف بمقدراته، (ص 118): “احنا مش على آخر الزمن حنخسر الناس اللي لحم كتافنا من خيرهم”، رغم أن لحم الأكتاف من رزق الله ثم عطايا الجهد.
ومن ناحية الموضوع قدمت الرواية أيضًا مجموعة قضايا مهمة، حول فكرة غاية البحث العلمي وأنواع العلماء (ص 121). وخاتمة الرواية طرحت سؤالا مهما في ضمير الرواية: هل التقدم العلمي يمكن أن يكون سببًا في تدمير البشرية؟! وأيضَا حول حقيقة التاريخ، وهل هو من نسج الخيال، يتم أرثه ليصبح وعيًا جماعيًا غائبًا لاستناده على حقائق مزيفة، وعبر عن هذه القضية بالعتبة الموازية الثانية للرواية بالإهداء إلى الحقيقة المطوية المخفاة تتنظر الإيضاح الكريم، وأن ترى نور الشمس. فكان الإبداع سبيلا للكشف.
وبالرواية مسحة صوفية، حيث التعبير أن طريق الله هو سبيل النجاة، وأهمية مضاعفة الجرعة الإيمانية بصلاة النوافل، وقراءة القرآن، والأوراد الرواتب، وطقس المعتكف لتغذية الروح. وأتت عبارة عرفانية معبرة: “لا تبحث عن شيخ ليقربك إلى الله، ابحث عن الله في نفسك .. ستجده أقرب إليك من حبل الوريد”.
وعرضت الرواية (ص 136) مفهوم السفر عبر الزمن علميًا، عبر ضخ كمية كبيرة ومركزة من الطاقة المنتظمة، وفتح ثقب في البعد الرابع “الزمن”، من خلال نبضة كهرومغناطيسية قوية. وكانت آلة الزمن وسيلة مساعدة للتنقيب في التاريخ وتحقيق قصدية المفارقة المعبرة في الرواية.
أما من حيث النسيج القصصي، فنجد حضور اللغة التي عمدت لتوصيل معاني الرواية بلغة سهلة، وسمة أسلوبية مستقرة بحضور الحوار الممسرحي الذي تفصح فيه الشخصيات الروائية عما يدور بداخلها دون وساطة الراوي، عقب مقدمة سردية قصيرة محددة، نموذجًا (ص 67) كيف كانت الخلوة عند الشحات طقسًا دوريًا، وكيف حاول جذب صديقه “إبراهيم العلي” لمصاحبته في معتكفه بمغارة الجبل الغربي، ثم تلى ذلك الحوار بينهما حول هذا الأمر.
وإذا كان الحوار حكاية الأقوال، فقد حضر الوصف حكاية السمات والأحوال بصورة أكثر اعتمادية على الحدث الروائي، بالتالي وقع عبء الوصف روائيًا على عاتق القارئ، حيث اعتمد الروائي الطريقة غير المباشرة لتصوير الشخصية من خلال سلوكها المنظور روائيًا.
واعتمد الروائي في قطاع روائي دون آخر، فكرة وجهة النظر، حيث يرى القارئ الحدث والوصف من عين الرائي، وهو هنا الشخصية الروائية، بما يحقق فضيلة سردية، بتماهي القارئ مع الشخصية، وإختفاء المؤلف خلف أقنعة شخصياته الفنية، فيحقق لها الاستقلال الفني المميز، (ص 51): “لم يتخيل “حازم” بعد غيابه طوال هذه الفترة أن يعود إلى قريته، ويجدها على نفس الحال تقريبًا أسياد وعائلات وفلاحين بسطاء”.
لكن في مقاطع روائية أخرى ظهر التأصيل البحثى وبث المعلومات شيئا بعيدا عن وجهة نظر الشخصية الروائية، كما حدث في الحديث عن المندرة في القرية (ص 42)، وفقرة أخرى حول عبيد العائلة (ص 48)، وحديث مطول حول طبيعة الخلوة الصوفية (ص 66 و67)، وحديث آخر حول أنواع الرؤيا (ص 100). ومن ناحية أخرى أنفق الروائي من ثروته “علامات الترقيم” بوفرة خاصة في علامات التعجب، خاصة حول قضايا الرواية الموضوعية.
وبصفة عامة تظل مغارة الجبل الغربي موطنًا سرديًا جيدأ لكنز المتعة والمعنى الاجتماعي معًا.
ميدل إيست أون لاين