مـشكـلات تـكشفهـا الـثـورة (ميشيل كيلو)

ميشيل كيلو

عقبـات كثيرة تحـول دون خـروج السورييـن مـن الزمـن الاستبـدادي ورهاناتـه، إذ يستحيـل بلـوغ الحريـة والتخلـص من الاستبداد بعقلية تشبه عقليته، وأدوات تماثل أدواته ورهانات لا تختلف عن رهاناته.
تكشف الثورة ما هو مختزن في المجتمع الذي تنشب فيه. في نظم الاستبداد، وبقدر ما تكون هذه قوية ومسيطرة وكلية الحضور، يبدو المجتمع منسجماً ومتماسكاً وموحداً وخالياً من المشكلات الحقيقية، فلا مشكلة في الاندماج المجتمعي، ولا مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بل مجرد مصاعب جزئية هي بوجه عام وغالبا «هنات هينات»، لا بد من وجودها في تطور صاعد، هو نمط وجود ونشاط مجتمع الاستبداد، المتماسك والممسوك، من أدنى مراتبه إلى أعلاها، من قاعه إلى قمته. فهو كساعة تعمل بانتظام لا يعرف التناقضات او العثرات، فلا عجب ان كان كل من فيه يتحدث لغة واحدة، ويزاول اعمالا متماثلة، ويؤمن بقيم مشتركة تعبر عنها كلمات موحدة، ويتحرك بما تمليه عليه نظم مدروسة حتى ادق تفاصيلها، تقي من يتقيد بها من الخطأ، لأن الخطأ ممنوع أصلا وباهظ التكلفة، فلا بد أن يتبعها ويتقيد بها ويعيش بدلالتها. في الاستبداد، المستشري والمتفاقم منه، لا توجد مشكلات تتصل بالهوية، فهي محسومة بصورة لا رجعة عنها كونها نهائية. وليس هناك ايضا مسائل تتعلق بانتماءات دنيا أوجزئية، فالجميع ينتمي إلى الحزب أو الطبقة القائدة او القائد الملهم أو الى هؤلاء جميعا في آن معا، ضمن انسجام وتوافق تامَّين لا تشوبهما شائبة ولا يعكر صفوهما معكر، إلا ما يقوم الاستبداد به من عمليات تطهير متعاقبة تشمل كل من يخرج أو يحتمل أن يخرج عن الصورة التي يرسمها لحياة مواطنيه العامة والخاصة. إلى هذا، ليس في الاستبداد مشكلة فقر أو سوء توزيع للدخل الوطني أو بطالة (تسمى البطالة هنا «فائض عمالة»، لأن العاطلين عن العمل ليسوا غير عمال لا يحتاج اليهم احد ولا لزوم لهم!)، أو تنمية ونمو، فالتنمية تسوق باعتبارها احد مصادر شرعية الاستبداد الرئيسة، حتى إن كانت غير موجودة، وهي تقدم عموما بلغة تجميلية تبيعها دعائيا «كمكتسبات ومنجزات»، كما لا توجد مشكلات في الخدمات والمرافق العامة، ومن المحال أن تكون هناك مشكلات سياسية، من طابع وطني أو قومي او حتى حزبي. فالاستبداد هو السياسة بامتياز، لأنه يقوم على رافعة السياسة ويعمل في إطارها ويرسم جميع خطاه في ضوئها ومن أجل تحقيق مأربه بما هي مقاصدها الوحيدة.
باختصار، ليس في الاستبداد مشكلات قد تستدعي المعالجة، فهو لا ينتج مشكلات من جهة، ولان معالجة المشكلات تعني أنه أنتجها وتعايش معها حتى صار من الضروري التخلص منها من جهة اخرى، وهذا كله من المغالطات التي يقول بها وينشرها خصوم التقدم والاندماج المجتمعي والمساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، الخ .
هذه الصورة كانت سائدة في سوريا ما قبل الثورة، وهي تتلخص في التالي: نحن في حال ممتازة وصحيحة استراتيجياً، تخلو خياراتها من أية نواقص أو عيوب، وإن كنا نواجَهُ هنا أو هناك، في حالات متفرقة وهامشية لا يجوز التوقف عندها، أخطاء لا تعدو أن تكون شوهات حسن لا ترجع إلى خيارات القادة، بل الى نواقص العنصر البشري المنفذ، الذي يتحسن دون شك، لكنه لم يبلغ من التحسن بعد تلك الدرجة التي تجعله محصّنا ضد الأخطاء الفردية والشخصية. النظام فوق النقد، انه صحيح تماما ولا يأتيه الباطل، اما العيب فهو في البشر الذين يعملون على خدمته، فيخطئون ويصيبون، رغم ما يضعه لهم من ضوابط دقيقة تقيهم شرور تصرفاتهم الجسيمة. إذن، ليس في سوريا مشكلة طائفية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، وإن كان هناك من يُشَبّه لهم، فيظنون أن هذه المشكلات موجودة، هي من ماضي النظام وليست من حاضره، ولا محل او مكان او دور لها فيه.
[[[
جاءت الثورة السورية فكشفت المستور، وبيّنت كم كان النظام مزدحما بمشكلات لا قدرة له على حلها ولا قبل له بها. ظهرت على سبيل المثال لا الحصر مشكلة طائفية اخذت تدريجيا صورة صراع سني/ علوي، كما ظهرت على شكل تناقض بين أغلبية سنية اعتبرت معادية للنظام وثائرة، وأقليات قيل إنها مؤيدة له ومعادية للثورة او محايدة حيالها. ومع انني اعتبر هذه النظرة خاطئة في الحالتين، واعتقد أن هناك بين الأقليات كثرة لا تؤيد النظام، وبين الأكثرية أقلية وازنة تسانده، وأن المشكلة أكثر تعقيدا من أن تفسر بهذا النمط المسطح من الأحكام المتسرعة، فإن وجود مشكلة طائفية في سوريا ليس نتيجة من نتائج الثورة، بل هي جزء من المشكلات التي نماها الاستبداد وتستر عليها وحال دون حلها، بذريعة أن الحديث عنها هو الذي يوجدها في بلاد تخلو منها، رغم ما مثله سلوكه حيالها من خطورة على وحدة الجماعة الوطنية وأمن وسلامة الدولة والمجتمع. وليس من المبالغة في شيء القول إننا نواجه اليوم مشكلة اندماج اجتماعي وهوية سياسية ودولتية، ومشكلة اقتصادية واجتماعية ومشكلة ثقافية ومشكلة وعي… الخ، وان هذه المشكلات كانت موجودة ومغيبة عن عمد تحت غطاء كثيف من الأكاذيب الدعائية من جهة، والتخويف من اثارتها من جهة اخرى، وان انكشافها لا يعني بحال أن الثورة هي التي انتجتها، وإنما يعني أن عليها إيجاد الطرق والأدوات والأفكار الضرورية لمعالجتها والتخلص منها من دون مراوغة وكذب، ما دام عجزها عن حلها يفقدها هويتها كثورة، ويبقينا غارقين في مشكلات ستنتقل إلى النظام البديل الذي نريد اقامته، فلا تكون عندئذ ثورة الحرية والمساواة والعدالة التي اردناها، ولا يقوم واقع جديد يخلو مما يخبئه الاستبداد تحت سطح الموت الذي يفرضه على مجتمعه وتعيش عليه سلطته.
ليست الثورة في جوهرها غير فعل، قصدُه كشف ومعالجة المشكلات الهيكلية العميقة، الثاوية في عمق الحياة الاجتماعية وبنية الدولة والمجتمع. فلا عجب ان ثورة الشعب السوري تكشف منذ عامين مشكلاتنا العميقة والقاتلة التي حكمنا الاستبداد بفضل رعايته لها وتغذيتها بأسباب البقاء والتفاقم، وكان من المحال ان لا يستعين بها في صراعه مع شعبه، كما كان من المحال ان لا يكشفها هذا الجهد الإنساني الجبار الذي يبذله مجتمع يريد الخروج من الاستبداد الى الحرية، وسيكون من المحال ان تبقي عليها وأن لا تتخلص منها كي تكون حقا ثورة من أجل الحرية والشعب الواحد. لذلك يخطئ كثيرا من يقول أو يعتقد إن الثورة مسؤولة عن المشكلات التي برزت إلى العلن خلال السنتين الماضيتين، وخاصة منها مشكلة الطائفية المدمرة. ومن التسرع الحكم على الثورة السورية الراهنة انطلاقا من الدور الذي تلعبه هذه المشكلة في الصراع، ومن الضروري رؤية المعضلة على حقيقتها كمنتج للنظام الاستبدادي، ومعالجتها بصفتها هذه، وإزالتها معه باعتبارها واحدة من أقوى ركائزه واكثرها خطورة، يستحيل أن تتعايش الحرية معها، لما بينهما من تناقض وجودي. إن الإفصاح عن المشكلات وكشفها لا يعني إيجادها، فلا صحة لتحميل الثورة المسؤولية عنها، علماً أن بعض المشاركين فيها قد يقع في فخها ويحاول الإفادة منه، او يرى فيها مسوغا يبرر قوله بطائفية مقابلة أو مضادة، فيخرج بذلك عن الثورة وينخرط في مسار استبدادي ينجب الطائفية، التي أكرر انها لا يمكن ان تكون جزءا تكوينيا من اية ثورة وأي نزوع إلى الحرية، ولا مفر من اعتبارها رؤية معادية للثورة، كائنا من كان الداعي لها او المتكل في صراعه عليها، لكونها رؤية تعتمد بدورها مكونا مغلقا ما قبل مجتمعي، هو طائفة الاغلبية، التي لن تناضل عندئذ في سبيل حرية المجتمع بمختلف مكوناته، بل تصارع لإزالة مكون نقيض ما قبل مجتمعي، هو طائفة الأقلية، لتبقى بلادنا بذلك حبيسة عالم الاستبداد بنوعيه: الأغلبي والأقلوي، ونكون كمن لا يصنع ثورة بل يصنع استبدادا مضاعفا وقاتلا لجميع أنماط وأشكال الحرية والعدالة والكرامة.
[[[
هل سننجح في الخروج من الحقبة الراهنة، حقبة كشف المعضلات التي يخلفها لنا الاستبداد، أم اننا سنبقى في اشكال جديدة لها بعد سقوط النظام، فنضيع تضحيات شعبنا الذي ثار على الطائفية إضافة إلى ما ثار عليه وضده؟ وهل سنبارح هذه الحقبة إلى ما يجب أن يليها من تطور: إلى نظام جديد ستنتجه اسس ومبادئ بلورناها خلال صراعنا الحالي قبل كل شيء، لنجتث بواسطتها ارث الاستبداد الثقيل من جذوره، لننجح في صنع الثورة التي نزلنا إلى الشوارع من أجلها؟ ثمة عقبات عديدة تحول دون خروجنا من الزمن الاستبدادي ورهاناته، اهمها وأبرزها استحالة بلوغ الحرية والتخلص من الاستبداد بعقلية تشبه عقليته وادوات تماثل ادواته وخطط تطابق خططه، ورهانات لا تختلف عن رهاناته. لقد بنى نظام الاستبداد القائم وجوده على ارضية تكوينات ما قبل مجتمعية، ويريد بعض «الثوريين» بناء وجودهم السياسي على تكوينات ما قبل مجتمعية بدورها، علما بأن العدد لن يكون مقررا هنا، وأن ما يعتد به هو البنية والهيكلية التي ستترتب على التعبير السياسي للتكوين ما قبل المجتمعي في مستوى الدولة، وهو واحد في الحالتين: لا ترجمة له غير نظام الاستبداد النافي للحرية والمعادي للشعب بما هو شعب مجتمع موحد ما بعد فئوي أو طائفي، يتناقض وجوده وتمثيله السياسي مع طابع اية سلطة استبدادية فئوية، لكونها تلغي في الحالتين الدولة كتكوين عام ومجرد وشامل، يتساوى امامه جميع المواطنين، من دون تمييز او استثناء.
هل يجوز ان تفتقر المعارضة السورية، الموحدة في عدائها للنظام القائم، إلى توجهات مستقبلية تفصيلية وموحدة حيال المشكلات التي سترثها عن الاستبداد، وهل ستنجح في معالجة ما كشفته الثورة من معضلات قاتلة إن هي اعتمدت اساليب حزبية وجزئية، ينتمي الكثير منها إلى عالم الاستبداد الواسع، حيث نخطئ إن اعتقدنا بوجود نمط أو شكل واحد منه، وظننا أنه يكفي القضاء على شكله السائد اليوم عندنا كي يتم القضاء على جميع صوره وأشكاله؟
هل سننتقل من كشف المشكلات إلى التخلص منها، فنكون قد صنعنا حقا ثورة، حتى قبل سقوط النظام؟ هذا ما يعلق شعبنا آماله عليه، رغم أن مشهد القوى المنظمة، المنخرطة في الصراع ضد السلطة، لا يغري كثيرا بالتفاؤل. أن اصواتا كثيرة تتعالى معلنة عن طائفيتها المعاكسة، التي ستنقلنا من مأزق إلى آخر لا يقل سوءا عما قبله، وليس من عالم الظلم والقمع إلى رحاب العدالة والحرية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى