مكاوي سعيد يدفع شخوصه الى الحافة
على حافة اليأس والتشوه حيناً، والقدرة على المقاومة حيناً آخر، يقف شخوص رواية «أن تحبك جيهان»، (الدار المصرية اللبناينة) للروائي المصري مكاوي سعيد. شخوص موزعون ما بين عوالم مختلفة، وتناقضات اجتماعية فادحة، يتحركون في مساحة زمانية قصيرة نسبياً، فتصل ما بين السنوات التي تسبق الثورة المصرية في يناير 2011، ووصولاً إليها، عبر الحضور الواعد للشخوص في ميدانها (أحمد الضوي/ جيهان العرابي/ بسمة/ خيري/ إمبابي) أو معاداتها كما في حالة «رنا» القاصة التي راهنت على السلطة لا الكتابة. فالزمن المرجع للرواية يبقى إذاً زمناً دالاً قادراً على تفجير جملة من الأسئلة عن الواقع المصري وتحولاته السياسية/ الثقافية العاصفة.
ينفتح عنوان الرواية على إمكانات تأويلية متعددة، يتشارك المتلقي في بلوغ دلالاتها الوسيعة، حين يكمل تلك الفراغات النصية الكامنة خلف معنى «أن تحبك جيهان»، كما يدفع الكاتب أيضاً بإحدى شخصياته المركزية منذ العنوان «جيهان»، في رواية تحتشد بزخم من الشخوص والتفصيلات والحكايات الفرعية والمسارات السردية المتقاطعة. ويستهلها الكاتب ببطله المركزي «أحمد الضوي»، الذي يأخذ مع «جيهان» و»ريم» الحيز الأبرز في متن السرد، وإن ظل «الضوي» رابطاًً مركزياً ما بين الفصول السردية المتنوعة والتي تقترب من الستين فصلاً. هذه الفصول لم يمنحها الكاتب أي ترقيمات، واكتفى بعناوين فرعية تحيل إلى أسماء الشخوص المركزيين الثلاثة في الرواية: أحمد الضوي/ جيهان العرابي/ ريم مطر.
مسارات حكائية
وظل الكاتب شغوفاً في بنائه الشكلي للعمل بالجدل ما بين المسارات الحكائية التي يرويها الضوي والمسارات الأخرى التي ترويها جيهان العرابي، بحيث نقرأ فصلاً يرويه الضوي ثم يعقبه فصل آخر ترويه جيهان. وظل حضور ريم عبر مستويين متجادلين في السرد، فتارة يحكي عنها السارد/ البطل ( أحمد الضوي)، وتارة تحكي هي عن نفسها كما في الفصول التي تتسلم فيها مقاليد الحكي.
وهذا كله يفضي بنا إلى أن نصبح أمام رواية تدرك ذلك المنطق الديموقراطي للسرد. فثمة أصوات متباينة يتواتر حضورها في السرد، فتحكي من وجهة نظرها، ووفق زاوية رؤية تخصها وحدها صوب الحياة والعالم والأشياء، ومن ثم تبرز التماسات والاختلافات الجوهرية ما بين الشخوص المختلفين تارة، وتتخلق الرؤية السردية من جدل الأصوات المختلفة وتقاطع حكاياتها، وتتكامل لتشكل جدارية السرد في الرواية. فهناك فصول كثيرة تنتهي عند حادثة ما، ثم يأتي الفصل التالي والمروي على لسان شخصية أخرى ليكمل الحكاية، وهذا ما رأيناه عند الإشارة إلى الاستعداد لليلة رأس السنة الميلادية في فصل ترويه جيهان العرابي، ثم نرى استكمالاً للحكي على لسان أحمد الضوي بوصفه أحد المدعوين الأساسيين في منزل جيهان ليلتها.
وعلى رغم المساحة الزمانية القصيرة نسبياً والتي يتحرك فيها الكاتب في روايته إلا أن ثمة لعباً زمنياً دالاً في النص، حيث يوظف تقنية الاسترجاع في مقاطع عدة. وتحضر الإشارات الدالة إلى زمن السبعينات من القرن الماضي وأثره في التحولات الفارقة في بنية الواقع المصري. ويقدم الروائي منحى الزمن هنا عبر شخصيته الثرية «شريف» المناضل الذي نسيه الحلم، وأكله الخوف، واعتقل أيام السادات، وخرج من المعتقل ليجد كل شيء قد تغير، فصار مكتئباً، شاكّاً في كل من حوله، بمن فيهم جاره (أحمد الضوي) الذي أحبه لشبهه بخاله الراحل (حسام)، الشاعر الذي لم ينجز شيئاً، وماتت أم الضوي حزناً على فراقه.
على متن الرواية إذاً وعلى حوافها أيضاً ينهض شخوص هامشيون، يمنحون الرؤية السردية بعداً إنسانياً ودلالياً عميقاً، من بينهم (شريف وحبيبته الأولى شويكار/ أم الضوي وأخوها الراحل حسام/ إمبابي المرتحل في الزمان والمكان الروائيين والمرتبط بريم والضوي والميدان وكثيرين).
ويتسع الحيز المكاني في الرواية قليلاً، ليضم القاهرة بأحيائها المختلفة، وإدفو حيث مسقط رأس البطل المركزي «أحمد الضوي»، وإن ظلت منطقة وسط البلد المكان المركزي في الرواية، بوصفه منطقة أثيرة في نصوص مكاوي سعيد كافة، وندَّاهة سحرية تجذب ناسها دوما. وتظل حركة الشخوص في المكان وتفاعلهم المادي/ الأنطولوجي، والنفسي معه بمثابة آليات جمالية يعبر بها مكاوي عن رؤيته للعالم، تلك الرؤية المكسوة بقدر عارم من الأسى والإحساس بوطأة الهزائم الصغيرة، واختلاس البهجات العابرة لبطله المركزي أحمد الضوي، حتى لو كانت ليلة في حضن عشيقته ريم، أو سهرة مع صديقه الضابط «عماد».
تتعدد لغات الشخوص في الرواية، ويعبّر كل منهم عن تصور أيديولوجي محدد، وهذا ما يبدو في الجمل التي ترد على لسان الشخوص مباشرة، أما اللغة التي يستخدمها الكاتب في السرد فإنها تتسم بتلك البساطة الآسرة، كما تتسم بالسلامة اللغوية، وربما كانت اللغة هنا مختلفة في بنيتها عن الرواية السابقة لمكاوي «تغريدة البجعة»، خصوصاً في ما يتعلق بالجزالة اللغوية والتصور الكلاسيكي عنها.
حكايات متعددة
تبدأ الرواية بأحمد الضوي وتنتهي به، إنه الخيط الواصل ما بين أحداثها المختلفة، وحكاياتها المتعددة، رابط تقني مركزي ينفذ من خلاله الكاتب إلى شخوصه الآخرين، فيصل إلى الشخصيتين المركزيتين: ريم وجيهان، المرأتان المدهشتان في تفاصيل البناء الفني للشخصية الروائية بأبعادها الثلاثة (الجسدية، والنفسية، والاجتماعية)، حيث يهتم بهما مكاوي سعيد كثيرا، وينزع كثيرا في توظيف السرد التحليلي في ما يتعلق بهما من مقاطع سردية، وكأنه يوقن بصعوبة المهمة. وقد يفضي المستوى الظاهري في فهم النص وتأويله إلى القول بأن (ريم وجيهان) وجهان متعارضان، فريم النزقة المحبة للحياة والجنس حد الوله: «لقد عاشرت ريم وأكاد أحفظها غيبا ويفتنني منها تناقضها المرعب… منظرها وسلوكها الخارجي ولسانها الأرستقراطي وما يستتر خلفه من وقاحة وقبح وهوس جنسي». (ص 190). تقابلها جيهان التي تعاقب نفسها إن أحبت، والتي تمثل علامة على تكوين تقليدي محافظ إلى حد ما، غير أنهما يبقيان في جوهرهما علامة على عالم محبط ومأزوم ومثقل بالخيبات والإخفاقات، ومسكون بالتصور الذكوري عن العالم.
وكلما اقترب الإيقاع السردي من الركود في نص ضخم (نحو 700 صفحة)، يدفع الكاتب إحدى شخصياته التي تمثل ما يعرف بالشخصية الحافزة أو المحركة والتي تدفع بالموقف السردي الراكد إلى الأمام، وهذا مانراه من خلال شخصية «إمبابي» المثيرة للدهشة والتساؤل.
ثمة إشارات لأحداث واقعية وشخوص حقيقيين في الرواية، يتجلى عبر هذا الجانب التسجيلي الذي يضفره الكاتب في متنه السردي، وبما يشي بالإيهام بواقعية الحدث الروائي: «كنت أنا وجيهان ضمن المجموعة الواقفة أمام جروبي في مواجهة مجموعة مكتبة مدبولي، وكان جنود الأمن المركزي يتشكلون بهيئة نصف قوس أمام كل مجموعة. وكانوا أقرب إلى مجموعتنا التي تقف حرة من دون متاريس بينما المجموعة المقابلة كانت ترتكز على المتاريس الحديدية. وكان منظر الجنود مرعباً بتجهمهم وبنظراتهم المندهشة والكارهة لنا، وبخوذهم وبنــادقهم وهراويهم وعصيهم الكهربية. ورأيت على الجانب الآخر الأديب بهاء طاهر والشاعر أحمد فؤاد نجم وكنت أعرفهما من وسائل الإعلام». (ص 657).
وبعد… في روايته «أن تحبك جيهان» يوظف مكاوي سعيد تقنية الأصوات المتعددة، فيروي الحكاية عبر أكثر من منظور، واللافت أن الحكايات هنا تتكىء على التلاحم في ما بينها، مثلما يعتمد السرد على آلية التوالد الحكائي، حيث تتناسل الحكايات من بعضها بعضاً، وتتجادل المســــارات الــسردية في نص يحفل بالتوتر المكتــوم الذي ينتهي بالثورة، ويحتــشد بزخم التفاصيل، وجسارة الإيروتيـــكي، وتأزم «ريم» رغم قدرتها الهائلة على الفضــح، وتعثر «جيهان» في عالمها، واغــتراب «الضوي» رغم التحامه بالمجموع في النـــهاية، هذا الإلتحام الذي يظل مفتوحاً بدوره على سؤال أساسي: هل يمكن للــفعل الثوري أن يقضي على إشــكاليات ومـــآزق طبقة اجتمـــاعية (الطبقة الوسطى) في سبيــلها للأفول والنسيان؟ هذا السؤال الجواب الذي يظل عنواناً على نص مفتوح، متعدد الدلالات والتأويلات.
صحيفة الحياة اللندنية