ملاذ يهود الإسكندرية

لقد وعى الكاتب مصطفى نصر مقولة سارتر جيدا: “إن الرواية يجب أن تؤرخن”، لكن وعيه هذا قد امتد فلم يكتف باللمحات التاريخية بل أجاد التضفير بين الجوانب التاريخية والإجتماعية والنفسية مارا بالأوضاع الإقتصادية؛ تضفيرا أكسب العمل ثراءً غير محدود عن طريق المؤانسة والعبقرية مستخدما في ذلك قدرته المذهلة على خلق عدد كبير من الشخصيات اللبلابية والمرسومة وفق الحاجة والوظيفة والدور.

نجده يركن مرة للوصف الخارجى أو يكتفي بإعطاء لمحة عنها من خلال تصرفاتها كما فى المدرسة (الأميركية البيهيفيورية) وأخرى يرسمها نفسيا وهكذا.

ففى جزء “ملاذ” فقط نجده قد صاغ 35 شخصية تاريخية وافتراضية وواقعية ومتخيلة. والتى كان لها القدرة على انتاج الأقوال والقيام بالأفعال بشكل متقن ومتسلسل تسلسلا منطقيا دون تداخل أو تقاطع، معتمدا على أشكال عدة من السرد مثل (الحكاية، المناجاة الذاتية، الحوار (مستعينا بالراوى العليم) الذي يعرض نصه بطريقة (اللاتبئير) أو التبئير في درجة الصفر، ومن منظور ثلاثي ورؤية متعددة الزوايا، متواريا بحرص وذكاء خلف الكواليس (كإله محايد ينظف أظافره بصمت) كما يقول جيمس جويس.

لو افترضنا أن لكل مجتمع شخصية فإن المعادل الموضوعي للأنا الأعلى عند شخصية المجتمع اليهودي ستكون (جون) أو (نزاح) رمز القوة الإيمانية. وستصبح شخصية (زاكن) هي المعادل الموضوعي (لهو) المجتمع حيث يعمل بمبدأ اللا، ولا يراعى المنطق والأخلاق والواقع.

إن الخلل الناتج عن تفاوت القوى بين (الأنا الأعلى) للمجتمع اليهودي (قوة مشوهة ضعيفة منبوذة لا تستطيع الدفاع حتى عن ذاتها. و(الهو) الباطشة القوية الميكافيلية التى تحصل على ما تريد وقتنا تريد، خلق تهاويا عند (الأنا) المتمثلة في شخصيات (ملاذ، مخلوف، بنيامين، الهادية، رزق، هارون) والتي كان من شأنها أن تمثل نقطة التوازن بين القوتين لكنها انهارت ببطش الهو وضعف الأنا الأعلى. فصار مجتمعا فاسدا شكلا وموضوعا.

برع النص فى إبراز نقاط ضعف ووهن هذا المجتمع وخطورته أيضا مثل بينيامين الوصولية فى المجتمع. مخلوف .. الفن المشوه المعتل. دوف.. المال والاقتصاد. عامير .. السياسة والطائفية . الهادية، ملاذ .. السمة السائدة فى المرأة اليهودية (الانحلال). الوالى سعيد .. الحكم المصري الشره المتعفن الفاسد الذي يمنح الإمتيازات وفق المصلحة الشخصية لا العامة.

• العبقرية الدلالية للاسم (ملاذ)

كعنوان للمقطع الأول إاسقاط على أرض الأبعادية التي صارت ملاذا ليهود الإسكندرية. كاسم لشخصية محورية .. كان موفقا تماما فلقد كانت ملاذ ملاذا ماديا لبنيامين عن طريق الدوطة. ملاذا شبقيا لمخلوف. ملاذا وسائليا لزاكن. ملاذا استخباراتيا لعامير. كحل من الحلول التي يلبي بها فرج طلبات عامير كأنه خادم مصباحه.

سنلاحظ تناصا فى الطريقة التى قتل بها (جون) ورقصة الهادية له وهي عارية مع قصة (سالومي ويوحنا المعمدان). وتناصا في خروج (هارون) مع أخيه (رزق) واختفائه في أرض بها ذئاب وثعابين، مع قصة (يوسف عليه السلام).

وفي تصوير الطريقة التي قتل بها (ساهر) أمه (ملاذ) بأن علقها من شعرها الطويل الجميل على فرع شجرة فوق ترعة كي تصبح أمثولة. تناص مع الطريقة التي كانت تعدم بها الساحرات في عصور أوروبا المظلمة.

وفي المجمل، فالنص أشبه بفيلم سينمائي تنبض فيه الحركة وتصلك الروائح والأضواء والأصوات وتخفيك الظلال. يتسم بسلاسة الحوار والدهشة والحبكة التي تمنح نوعا من أنواع المتعة والمؤانسة عند القراءة وأعتقد أن هذا هو الهدف الأسمى من الأدب بصفة عامة.

تحية لقلم المبدع السكندري مصطفي نصر .. جميل أن تخلد الإسكندرية بواسطة قلمه .

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى