منهج عبده العبيط (بلال فضل)

بلال فضل

مثلما إختفى في ظروف غامضة من خطاب تيارات الشعارات الإسلامية الحديث عن بغلة العراق التي بكى عليها سيدنا عمر، والحديث عن تعجب سيدنا أبي ذر ممن لايخرج على الناس شاهرا سيفه إذا لم يجد قوت يومه، اختفى في ذات الظروف تكرار الإستشهاد بالآية الكريمة “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، ولم نعد نسمع تلك الخطب المطولة عن الإعجاز القرآني في ربط القصاص بالحياة، بل أصبحنا منذ أن ساحت الوعود الإنتخابية المدهونة بزبدة الشعارات، نسمع حديثا متصاعد النبرة يركز أكثر على المواءمات والملاءمات والدية والتعويضات واختيار أهون الضررين ونبذ الإنتقام والعفو عند المقدرة، وعاد الأمن المركزي في ثوبه المدرع الجديد باهظ التكلفة ليصبح لغة التخاطب المثلى مع من يطالب بتطهير الداخلية وإعادة هيكلتها ومحاسبة المسئولين عن قتل شهداء الثورة ومذابح ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وصار المنطق المتبع في التعامل مع كل هذه الجراح الملتهبة “أعط المسئولين عنها شلوتا لفوق بالقلادات مع إستمرار الميزات المادية وأعط المعتقلين عفوا رئاسيا واعتمد على مشايخ السلفيين في مرهمة أهالي الضحايا وإقناعهم بقبول الدية وراهن على إقتناع الملايين بأن الحي أبقى من الميت”.

منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها إلى سدة الحكم، قرر الدكتور محمد مرسي أن يستخدم للتعامل مع ملف القصاص والشهداء منهجا يشتهر بين الناس بإسم “منهج عبده العبيط”، وهو منهج من أشهر تطبيقاته الشعبية أنك إذا مشيت في شارع ووجدت خناقة حامية الوطيس تندلع فيه، فليس من الحكمة أبدا أن تشترك في محاولة فض هذه الخناقة سواءا بالقوة أو بالنصح أو حتى بالفرجة، وكل ما عليك فعله هو أن تعمل فيها عبده العبيط وتواصل السير حتى تبتعد عن محيطها وتصل مقصدك سالما غانما. بالطبع يصلح هذا المنهج للعبور من شارع، لكنه لا يصلح أبدا للعبور ببلد بعد ثورة، لأنه لا يوجد ماهو أخطر على مجتمع بشري غير مستقر مما يسميه علماء الإجتماع بـ “العنف غير المشبع” الذي يتراكم في الصدور التي لم تجد عدالة تشفي غليلها ولا قصاصا يخفف آلامها، فيقرر المظلومون كما يقول عالم الإجتماع أنتوني ستور البحث عن ضحية بديلة تحل محل المخلوق الذي أثار غضبها وتصب عنفها عليه، وهو مايربطه الشاعر السوري الجميل ممدوح عدوان في كتابه البديع (حيونة الإنسان) بفكرة (طائر الصدى) في تراثنا العربي والتي تقول أن طائرا خرافيا يخرج من قبر القتيل أو من هامته ويصرخ طالبا الثأر إلى أن يتحقق، وتصبح المسألة أخطر عندما لا تقتصر مشاعر العنف غير المشبع على أهالي وأحباء وأقارب من تعرضوا للظلم، بل تجذب إليها الكثير ممن تحتقن صدورهم بمشاعر العنف التي لم يتم إشباعها لأنهم أيضا تعرضوا للظلم بصورة أو بأخرى، لذلك فهم كما يقول عالم النفس الأشهر إريك فروم يلجأون إلى ما يسميه (دراما التدمير) التي يحققون من خلالها الإثارة لأنفسهم، ويحققونها للآخرين الذين يستمتعون بمراقبتها أو المشاركة فيها، وينتج عن كل ذلك مناخ مسموم يختلط فيه المكلومون والموجوعون حقا وصدقا بالمتاجرين بقميص عثمان، ويختلط الحابل بالنابل ويسقط كل يوم شهداء جدد وهم يطالبون بحقوق الشهداء القدامى.
لذلك كله قالوا في الأمثال (أخذ الحق صنعة)، ولذلك أيضا يفشل في أخذ الحق الحاكم الذي يفتقد إلى الرؤية والعزيمة، والذي يقرر عندما يفشل منهج (عبده العبيط) أن يلجأ إلى منهج (عبده الغشيم)، فيطلق العنان للقوة القمعية لكي تتعامل مع الشارع المضطرب، بدلا من أن يتخذ السكة الأصعب التي تجفف منابع العنف غير المشبع ولا تمنحه فرصة للتصاعد، وذلك بالتشريع السيادي الحاسم لعدالة ناجزة تعطي الغاضبين الأمل في تحقيق القصاص وتمنع إجتذاب المشاعر السلبية من كل إتجاه لإشعال نار موقدة تحرق المجتمع بأسره، وتجعل حلم الإستقرار وهما بعيد المنال. للأسف يختار هذا الحاكم دائما سكة العدالة البطيئة التي ربما تكون مجدية في الخلاف حول قطعة أرض أو أموال منهوبة، لكنها ليست كذلك عندما تتعلق بأحباء تم قتلهم ظلما وعدوانا، ويسول له من حوله أنه لو قام بتحصين قدرات الأجهزة القمعية سيتمكن من السيطرة على أي غضب يندلع في الشارع.
بالطبع يمكن نظريا للنظم الحاكمة أن تفلح في فرض سيطرتها على الشارع بقوة السلاح، لكنها لا يمكن أن تنجح أبدا في إنتاج مجتمع سوي، هذا ما يقوله إريك فروم في كتابه المهم (المجتمع السوي) الذي ترجمه محمود الهاشمي: يمكن للحاكم بالقمع أن يفلح في الهيمنة على البشر، لكنه لا يستطيع أن يمنع تحولهم إلى كائنات مذعورة تسودها المخاوف ويسيطر عليها سوء الظن وهو ما ينتج مناخا مسموما يجعل الأكثرية غير قادرة على تأدية وظائفها المطلوبة بصورة ناجعة، ويجعلها تقوم بتراكم الكره والتدميرية إلى حد يتسبب في نهاية المجتمع وليس الحكام فقط، لكن ذلك كله يمكن أن يحدث في المجتمع حسن الحظ رد فعل يجعل الأكثرية تتوق إلى الحرية والإستقلال وتقوم بالثورة لتخلق مجتمعا أفضل.
وهنا يأتي السؤال الذي فشلنا في مواجهته بصدق وأمانة طيلة العامين الماضيين ولا أظننا سنصل إلى إستقرار أو تقدم دون أن نواجهه بكل شجاعة: لماذا يدفع مجتمعنا ثمنا باهظا يوما بعد يوم لأن حاكمه لا يتوقف عن إتباع منهج من إثنين: منهج (عبده العبيط) أو منهج (عبده الغشيم)، بدلا من إختيار منهج التطهير والمواجهة وسكة القصاص من أجل الحياة وأسلوب العدالة الناجزة، لنقضي على مشاعر العنف غير المشبع، ونتقي نار الغضب الموقدة التي ستحرق الجميع سواءا كانوا من أولي الألباب أو أولي الشعارات أو أولي الدم.
“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”. صدق الله العظيم.

صحيفة الشروق المصرية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى