من بلفور إلى “صفقة القرن”.. “الربيع العربي” هو الأخطر
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الثلاثاء الماضي، عن بنود ما يُسمى “صفقة القرن” التي يريد لها أن تساعده على تصفية القضية الفلسطينية وهو على طريق إقامة الدولة العبرية الكبرى من النيل إلى الفرات.
وعلى هذا الطريق، اعترف ترامب في 6 كانون الأول/ديسمبر 2018 بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، فيما أعلنها الكنيست عاصمة تاريخية وأبدية ليهود العالم، والعرب والمسلمون في ثبات عميق. ولم يكتفِ ترامب بذلك، فاعترف في آذار/ مارس 2019 بضمّ الجولان، وأعلن عن تأييده ضمّ الجزء اليهودي من الضفة الغربية إلى “إسرائيل“.
وعلى الرغم من ردِّ فعل بعض الزعماء العرب والمسلمين على قرار ترامب الخاصّ بالقدس، فلم يؤثر ذلك في موقفه، لأنه يعرف أنَّ معظم هؤلاء الزعماء يهابونه، ولأسباب عديدة، فلولا “الربيع العربي” لما تجرأ ترامب أو غيره على ما قام وسيقوم به في حال انتخابه من جديد رئيساً لأميركا، الصديق والحليف الاستراتيجي لمعظم العملاء من زعماء المنطقة، ولولاهم لكانت سوريا وإيران ولبنان والعراق ودول عربية أخرى في وضع أقوى لا يسمح لأحد حتى بالحديث عما يُسمى “صفقة القرن”.
ولولا “الربيع العربي” لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، وهي دول المقاومة التي كانت تهابها “إسرائيل” وأميركا دائماً. ولولا سلوك حماس في دمشق، تلبيةً لدعوةٍ أنقرة والدوحة والرياض بإغلاق مكاتبها ومخيماتها في سوريا بداية “الربيع العربي”، لكانت هي الآن في وضع أقوى يجعلها أكثر صموداً في مواجهة “إسرائيل” وصهاينة العالم أجمع.
لو افترضنا أنّ حرباً شاملة وقعت الآن بين العرب و”إسرائيل”، فسوف تؤدي إلى مقتل ما لا يقل عن نصف الجيش الإسرائيلي على يد مئات الآلاف من الذين سقطوا في الحرب ضد الإرهاب في سوريا والعراق واليمن وليبيا واليمن ولبنان وتونس ومصر منذ ما يسمى بـ”الربيع العربي”.
كانت “إسرائيل” المستفيد الأول والأخير من تفاصيل وتطورات هذا “الربيع” الَّذي كان الجميع فيه، وما زال، في خدمة تل أبيب، التي حققت الكثير من أهدافها الاستراتيجية خلال السنوات التسع الماضية، فقد كلف هذا الربيع الدول العربية ما لا يقلّ عن تريليون دولار من إمكانياتها الاقتصادية، وساهم في تعميق الخلافات العربية- العربية بعد أن تآمرت بعض الدول العربية والإسلامية على سوريا؛ خط الدفاع الأول عن فلسطين، وأصبحت قضيتها في مهب الرياح الأميركية والإسرائيلية، وبرضا أوروبي، وأحياناً روسي، لما للتنسيق والتعاون الروسي- الإسرائيلي من أهمية بالغة تاريخياً وسياسياً واستراتيجياً.
فلولا تآمر أنظمة الخليج وأنظمة إسلامية أخرى على سوريا، لما استطاعت أميركا دخول شرق الفرات بحجة محاربة داعش، لتبقى هناك، لا للسيطرة على حقول النفط، كما تقول، بل للسيطرة على المدى المتوسط والبعيد على حوضي الفرات ودجلة، حدود الدولة العبرية الكبرى شرقاً، وبقاء أميركا في العراق ليس إلا لتحقيق هذا الهدف!
ولولا “الربيع العربي” لما أصبح السودان سودانين، ولما تجرأت إثيوبيا المدعومة من “إسرائيل” على بناء سد النهضة انتقاماً لموسى!
ولولا تآمر أنظمة الخليج ودعمها سياسات إردوغان، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في سوريا. وقد راهن الجميع إقليمياً ودولياً على سقوطها لفتح الأبواب على مصراعيها أمام “صفقة القرن” وتحقيق الحلم اليهودي في دولة من بين النهرين، فقد جاءت هذه الصفقة بعد مئة عام من وعد بلفور الَّذي حقق جميع أهدافه في القرن الماضي، على أن تحقق صفقة ترامب أهدافها للقرن القادم، بفضل دعم أنظمة الخليج، وهي نفسها، عائلياً، تآمرت على القضية الفلسطينية بمبررات أو من دونها، ولأن الخيانة من سماتها الجينية.
وإلا لماذا هذا التآمر على حزب الله والقوى الوطنية التي يعرف الجميع أنها الوحيدة التي ستمنع صفقة القرن، وستبقى الخطر الأكبر، إن لم يكن الوحيد، الذي سيهدد الوجود الصهيوني بأكمله؟ ولماذا تآمر الجميع على سوريا، وكان الهدف الأساس من ذلك هو حزب الله؟ ولماذا يتآمر الجميع الآن على إيران؟، والهدف من ذلك سوريا والعراق وحزب الله. ولهذا اغتالت أميركا الفريق قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، لأنهما عرقلا كل المشاريع الإمبريالية والصهيونية، ومنعا عملاءها في المنطقة من تحقيق أهدافهم التي جاءت أميركا بهم من أجلها.
باختصار، والتاريخ شاهد على ذلك، إن التآمر لن ينتهي ما دامت أنظمة الخليج وأمثالها في السلطة، وما دام سلاطين الخليج وملوكه وأمراؤه ومشايخه يتودَّدون إلى اليهودي جاريد كوشنير حتى يقنع زوجته التي اعتنقت اليهودية بأن تطلب من والدها أن يشفق عليهم، وإن أهانهم واستحقرهم علناً، داعياً إياهم إلى شراء أسلحته وتسديد تكاليف حمايته لهم، فكوشنير الذي زار المنطقة أكثر من مرة، والتقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وصهره برات البايراك في 27 شباط/ فبراير 2019، يبدو أنه مرتاح البال حيال مستقبل جهوده الجبارة لخدمة صديقه بنيامين نتنياهو بعد أن حقّق “الربيع العربي” أهدافه في تدمير سوريا؛ البلد العربي الوحيد الذي كانت “إسرائيل” تهابه لأسباب كثيرة، أهمها تحالفها الاستراتيجي مع حزب الله وإيران والدول والقوى العربية والإسلامية والعالمية الشريفة.
لقد آن الأوان لهذه الدول والقوى أن تعي جيداً أنَّ “صفقة القرن” ليست بمقولة عابرة، بل هي مشروع إمبريالي صهيوني رجعي خطير، بدأ بوعد بلفور، مروراً بسايكس بيكو، وقيام “إسرائيل”، وتآمر الأنظمة العربية والإسلامية، ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير، و”ربيع الإسلامويين” الدموي الذي دمّر المنطقة.
وعلى دول الممانعة وقواها أن تستعدّ لمزيدٍ من المؤمرات التي لا ولن تتوقَّف، وعليها، ومعها كلّ فئات الشعب الفلسطيني الوطنية، أن تستعدّ لمزيد من المواجهات الساخنة مع “إسرائيل” ومن معها من عملاء المنطقة، وهم في كل مكان وعلى جميع المستويات، فإذا أحسَّت “إسرائيل” في لحظة من اللحظات بأنها الأقوى بدعم أميركا وعملياتها في المنطقة، فلن تتردد في شن هجومها الأكبر والمباشر للتخلّص من حزب الله، بعد أن فشلت في سوريا، والآن في إيران والعراق واليمن.
وبصمودها معاً، سوف تسقط “صفقة القرن”، كما أسقط “الربيع العربي”، ليكون ذلك البداية العملية لنهاية “إسرائيل” في وضعها الداخلي الضعيف، فقيام هذا الكيان وبقاؤه حتى الآن لا يتناقض مع حقائق التاريخ والجغرافيا فحسب، بل الأهم الأديان، بل والأساطير التي اعتمد عليها الصهاينة فاستولوا على فلسطين.
وقد آن الأوان لأصحابها الشرفاء، وليس العملاء، أن يثبتوا للعالم أنّ ما أُخذ بالقوّة لن يُستردّ إلا بالقوّة. وبها أفشل الوطنيون القوميون الشرفاء “الربيع العربي”، ليقول التاريخ عنه إنّه وكلّ عملائه ساقطون بلا محالة، وإن أعلن ترامب بأنه المسيح المرتقب.
الميادين نت