من قال إن الدواعش كتلة متجانسة؟

وحدة المظهر وتشابه الشعارات مع تقارب أساليب التنكيل والتقتيل، ليست أمورا كفيلة للحكم بأن العصابات التكفيرية كتلة متجانسة في السلوكيات والأمزجة والطبائع.
الخبراء والمتخصصون في الجماعات الإرهابية، هم أنفسهم، وقع قسم كبير منهم في نوع من النظرة النمطية، وضللتهم تلك المظاهر الصارمة للعصابات المسلحة، وذلك بسبب حالة “الانضباط” التنظيمي للعناصر المقاتلة، وحرص قادتها على الظهور الدائم ب ” مظهر يرهب الأعداء”.
إن القول بأن وحدة المرجع والشعار والهدف من شأنها أن توحد المقاتلين الإسلاميين، أمر فيه الكثير من التسرع والسطحية والكسل النقدي، وذلك لأسباب موضوعية أهمها أن هذه ” الوحدة ” في المرجعية والمنطلقات الأيديولوجية هي من أساسها غير موجودة، لا على الصعيد النظري ولا على الصعيد الميداني.. بدليل جملة الاختلافات والانشقاقات والمعارك الطاحنة بين قادة هذه الجماعات وزعمائها، بالإضافة إلى هذا الكم الهائل من تنوع الجنسيات والأصول والأعراق في المعسكر التنظيمي الواحد.
كيف لعاقل أن يصدق بأن الشيشاني أوالدغستاني أوالأفغاني سيتحاور ويتوادد بكل سلاسة وألفة مع التونسي أو المصري أو البلجيكي أو النيجيري وغير هؤلاء من القادمين من كل أقاصي الأرض ومن شتى الثقافات والأذواق وأنماط العيش.
هؤلاء المقاتلون في صفوف داعش والقاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية هم، ووفق مبدأ ” ليس هناك معالجة واحدة لمرض واحد ومريض واحد”، أشبه بنزلاء مستشفيات الأمراض العقلية، لا يجمعهم إلا سقف المكان ولا يوحدهم إلا لون مراويل الأطباء والممرضين، ولا يتشاركون إلا في توصيف ونظرة من هم خارج المستشفى لهم.
التقارير التي قامت بها جهات أمنية غربية داخل معسكرات داعش، أظهرت الحجم الهائل من الخلافات، وتباين العادات والأمزجة بين عناصر التنظيم الإرهابي، وذلك بحسب تعدد الجنسيات والذهنيات وأنماط العيش بل ولقد وصل الخلاف بين أبناء الإقليم أو المنطقة الواحدة داخل داعش بسبب مباراة كرة قدم بين فريقين لمشجعي ناديين رياضيين متنافسين مثل الأهلي والزمالك المصريين والنادي الأفريقي والترجي الرياضي التونسيين. وفي هذا الصدد تحدثت تقارير عن مشادات وخصومات وصلت حد إشهار السلاح، وذلك بسبب تفاصيل لا علاقة لها بالخلافات التنظيمية بل بمباراة رياضية، وغير ذلك من اختلافات مزاجية بحتة تصل أحيانا إلى ما يمكن وصفه بالصغائر والترهات.
العصبيات الإقليمية والقُطرية كان لها نصيب وافر بين عناصر التنظيم المتعدد الجنسيات، مما يقيم الدليل على أن الجماعات الجهادية ليست متجانسة ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، كما أنها لم تنجح في إنتاج أيديولوجيا تذوب فيها كل الفوارق لصالح شعار براق ومخادع اسمه ” الخلافة الإسلامية”.
وتفيد التقارير الاستخبارية الغربية أن احتداد الخلافات والمصادمات بين ” عناصر مشاكسة ” داخل التنظيم الإرهابي، كان في كل مرة لا ينتهي إلا بتدخلات من مشرفين من ذوي الرتب القيادية العليا. والملفت أن النزعات الاستعلائية والتمييز القومي والعرقي، أمر حاضر بقوة داخل الجماعات المسلحة، ولم تستطع محوه تلك الشعارات المروجة لفكرة ” الإخاء والمساواة بين المسلمين ضد الكفار”، مما يحيل إلى فكرة في غاية الحساسية وهي أن ما يوحد هؤلاء المسلحين ليس العقيدة التي حاول منظرو الإسلام السياسي إقناعهم بها وحشو أدمغتهم بأفكارها وشعاراتها، وإنما شيء آخر اسمه التعطش للقتل بدافع الانتقام من شيء ما قد لا يعرفه صاحبه، لكنه يبقى شبه مجهول، ويخفيه صاحبه خلف الجهاد من أجل الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية.
كل كتيبة من كتائب داعش أو غيره من التنظيمات الإرهابية هي عبارة عن ” حاوية ” أو مكبّ من الأمراض والعقد النفسية ـ ومن مختلف أصقاع العالم ـ تجمعت كلها على شكل جماعة تمارس الجهاد.. هذا ” الجهاد” يأخذ، وفي رأي محللين نفسانيين، شكل نوع من أنواع ” الكثرسيس” أي ذلك الطقس التطهيري المعروف لدى الشعوب القديمة، والمتمثل في طلب التوازن النفسي عبر مشاهدة الدماء والأشلاء والأوصال المتقطعة.
العقيدة الجهادية ـ ومن هذا المنظور ـ هي مقصد وقبلة كل المرضى النفسانيين والراغبين في الانتقام، لأنها توفر لهم ضالتهم، وتقدم لهم الضمانة في عدم الندم أو التراجع، وذلك بتزيين فكرتي الجهاد والشهادة.
ولأجل كل ما تقدم وبسببه أيضا، ظلت الخصوصيات التربوية والاجتماعية والثقافية قائمة ولم تُمحى داخل التنظيمات الإرهابية بل كرست بدليل أن الألقاب الحركية لقادة التنظيم تذيلها انتماءات قطرية صريحة على شاكلة ” أبو فلان التونسي أو الليبي أو الشيشاني وغيرها من الأسماء التي تجمع عادة بين شخصية من تاريخ الفتوحات الإسلامية وانتماء لدولة أو جهة.. أو ليس هذا تكريسا لنزعة مناطقية ضيقة مقارنة بالشعارات المرفوعة والتي تزعم وتدعي كونية الدولة الإسلامية؟
أمر آخر ينبغي التوقف عنده بكثير من التمحيص، وهو أن بعض أحزاب الإسلام السياسي تتباهى وتتشدق ب ” الخصوصية الوطنية” كواجهة لكسب شرعيتها المحلية مثل حزب حركة النهضة في تونس الذي ما ينفك قادته يروجون لخصوصيتهم الاجتماعية في مسعى لإصابة أكثر من هدف بحجر واحد.
إن مراجعة التقارير التي تحدثت عن تشنجات تعكس نزعات وخصوصيات مجتمعية بين صفوف مقاتلي داعش، والتوقف عن أسباب تلك الخلافات، تعكس مدى عدم تقبل هؤلاء المقاتلين لفكرة الذوبان في أيديولوجيا هلامية تزعم محو الفوارق بين عناصرها، كما تعطي الدليل على أن لا شيء يجمع بين المقاتلين غير حب القتل، ولأسباب تتعدد بتعدد تجارب ودوافع أصحابها، لكنها تختفي تحت بعبع اسمه ” الجهاد”.