«من لا يكره بغداد» بين البعثيين والطائفيين؟

قليلة هي الكتب التي تقدم معطياتها في نقد الأفكار والسياسة، ضمن نسيج من براعة الصنعة الأدبية، بل إن الإمعان في احتقار «جماليات التعبير» صار لازمة في معظم ما يتصدر واجهات المكتبات العربية اليوم. هذا إذا ما وضعنا جانباً، عسر الكتابة وحفنة الأخطاء النحوية والإملائية حتى لدى أكاديميين باتت شهاداتهم العلمية قرينة بالكم الهائل من غثاثة الكتابة وحشد أخطائها. ومن بين القلة التي تعاين مهمتها الأساسية في التعبير الراقي عن الأفكار وإيصالها بطريقة راقية إلى المتلقي، يأتي كتاب «من لا يكره بغداد»، الصادر حديثاً عن «دار نون»، للكاتب والصحافي أحمد المهنا الذي غادر الحياة فيما كان كتابه على وشك أن يرى النور ليكون الثاني له بعد الأول اللافت «الإنسان والفكرة».

براعة الصنعة في كتاب المهنا المسكون بـ «أحلام ما بعد الديكتاتورية» في العراق، تبدأ من العنوان المأخوذ بالأصل من عمود صحافي كان بين أواخر ما نشر في بلاده التي تولّه بحبها، وقبل اكتشافه الصادم لتفشي السرطان في خلاياه الدماغية. فالعنوان يوقع القارئ في حيرة، فهل يعقل أن يتحول «المحب الكبير» والمفتون بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة، وبالحنو على مدينته مهما بدت قاسية، إلى «كاره» لها؟ فليس محبباً أن يعلن الإنسان كره بلده أو مدينته، فكيف بشخص كتب الكثير عن بلده وشغف به حباً مثل المهنا؟

لكن أحمد المهنا هنا، ووفق ما كتب عنه، صديق عمره، عامر بدر حسون، تقديماً للكتاب «هو من سيبادر ويأخذك للخلاف معه، فهو يستخدم مقالاته كمعول يحاول أن يحطم به الأصنام النائمة في العقول، كل مقالة تحاول أن تزعزع قناعة ما، وأن تقلق نومة هنية في عسل اليقين العقائدي والاجتماعي والسياسي والفكري، ولا شيء يثير الخلاف والحفيظة والخصومة مثل محاولة تحطيم أصنام العقل».

والكتاب، على رغم أن الكثير من مقالات فصوله الستة جاء قراءات ناقدة لمآلات العراق الرهيبة بعد عام 2003، هو بالضبط محاولة في «تحطيم أصنام العقل»، لجهة أنه يجاهر بنقيض ما تأتي عليه «الثوابت الوطنية» بتكثيف عال وصفاء فكري نادر، وبصوغ أدبي لا يخفى جماله القائم على عبقرية البساطة: «في 12 عاماً تسلم (الملك) فيصل الأول العراق عدماً، وسلّمه دولة تسير على سكة السلامة ضمن دول عصبة الأمم، وفي 35 عاماً تسلم البعث العراق عمارة وسلّمه خرابة. الأول اشتغل على استظهار أنبل ما في الناس، والثاني استخرج أشرّ ما في الناس». إننا فعلياً حيال كتابة مختلفة، بل «معرفة مكثفة وعميقة تحتاج للتأمل»، ويجد القارئ نفسه «أمام كتابة أصيلة لا تقلد أحداً. ولا تسعى إلى تقديم فكرة «جماهيرية» أو شعبوية».

مقالات المهنا الناقدة، تحترم العقل عبر «ملاحقته يومياً بالأسئلة والشكوك»، ولكن بلا لغة مقعرة، ومن دون عسر في الأفكار والسبك التعبيري. وفي حين نقرأ في الكتاب، أن «الديكتاتورية حفلة مطاردة محمومة للبشرية المحترمة. الديكتاتورية تموت وسط الناس المحترمين، وتحيا في بيئة المرذولين. قد لا يسرق الديكتاتور فلساً واحداً. لكنه يسرق المجتمع كله ويهينه، عندما يسمح لحاشيته، وللمسؤولين في دولته بالغرق في الفساد. يراقبهم، يجمع الملفات حول نهبهم وحول كل مظاهر خروجهم عن القانون فبذلك يضعفهم ويتحكم بهم، ومن خلالهم يتحكم بالشعب»، إن الكاتب وفي السطور القليلة أعلاه، يوجز أفكاراً يطنب في الحديث عنها باحثون وكتاب، لا يترددون عن إضفاء «الحصافة» على هذر ما يكتبون، عبر استعارات واقتباسات تبدأ ولا تنتهي من مترجمات «الحداثة» وما بعدها أيضاً.

مقالات المهنا، حتى في علو أدبها الكتابي، هي «حكي» سلس مع الناس وعنهم وإليهم، بل إن متون معظمها تأتي مستندة إلى حوادث إنسانية صغيرة، هي مما عاش وعرف ودرس، منذ بكالوريوس اللغة العربية وآدابها بتقدير «امتياز» من كلية الآداب – الجامعة المستنصرية عام 1978، ثم الاضطرار للهجرة من العراق عام 1979. والعمل في الصحافة في منابر عدة بين بيروت، دمشق، نيقوسيا، لندن، أبو ظبي، بغداد التي عمل فيها مديراً تنفيذياً لقناة «الحرة – عراق» 2004 – 2007، ثم تأسيسه وترؤسه تحرير صحيفة «العالم» البغدادية عام 2010.

لكنها أيضاً كتابة عن «مسؤولية المثقف»، وتحديداً من بدا مصنفاً، برغبة منه أو من دونها، على السلطة السائدة اليوم في البلاد: «المثقفون الشيعة وأعني بهم أصحاب الرأي من الكتاب والباحثين والصحافيين والأدباء والفنانين ذوي التوجه العلماني والإسلامي المتنور من الطائفة الشيعية، وهؤلاء مهمون ليوم العراق وغده وهم في هذه الأيام أكثر أهمية. وتكمن أهميتهم في أنهم يمكن أن يكونوا عاملاً خطيراً من عوامل اشتعال الحرب الأهلية كما يمكن أن يكونوا، على العكس عاملاً حيوياً من عوامل تعزيز التعايش المشترك والسلام الاجتماعي لأنهم يشكلون غالبية أصحاب الرأي وغالبية المشتغلين في وسائل الإعلام، ولأنهم لذلك يتحملون مسؤولية اعتدال أو تشدد البيئة الفكرية والوجدانية السائدة، والحكومة خصوصاً والسياسة عموماً لا تستطيعان الذهاب إلى هذه الوجهة أو تلك بمعزل عن هذه البيئة».

وهي أحاديث صريحة عن «أقنعة» المثقف العراقي: «كم ازدادت أعداد البعثيين عندما كان الحكم بعثياً؟ وكم ارتفعت نسبة الطائفيين بعدما صار الحكم طائفياً؟»، مثلما هي إضاءات لفساد ذلك المثقف وفق صورته المعلنة اليوم: «فساد شريحة المثقفين ورجال الدين أخطر من فساد الطبقة السياسية»، فهو يعني في حقيقته المرعبة «فساد جميع فئات المجتمع».

يا برج بابل: ألم تستنفد السماء ثأرها منك؟

هي جملة تذهب أبعد من السؤال الذي تتضمنه، تلك التي وردت في كلمة المؤلف، بل إن إيجاز بلاد الرافدين في «برج بابل» في علوه العبقري وعناده الذي جر عليه «غضب الآلهة»، جاء موفقاً كصوغ أدبي لقراءة المصير الفجائعي للعراق اليوم، ذلك الذي يزيد عليه المهنا بقوله: «يبدو العراق مثل بحيرة جف ماؤها. كيف سار إلى هذه العاقبة، لماذا وصلها بهذه السرعة؟ وما سر تجمده عندها؟ وهل يمكن أن نختصر الجواب بكلمة واحدة هي السياسة؟ إن مصائر البلدان أمر من الخطورة بحيث أن لا تترك للساسة. ولا لأي فئة دون أخرى، فلكل مواطن سهم في مصير وطنه، فاعرف سهمك تستعد وطنك».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى