من يحكم العالم؟
عرض: محمد بسيوني عبدالحليم- باحث في العلوم السياسية
Noam Chomsky Who Rules the World? (New York: Metropolitan Books, 2016)
تغير النظام الدولي كثيرا خلال السنوات الماضية، وباتت المسلمات التي قام عليها، منذ انتهاء الحرب الباردة، مثار الكثير من الشكوك، لاسيما فيما يتعلق بنمط القيادة الأمريكية الأحادية للنظام. فقد بزغ العديد من الفاعلين الطامحين إلى أدوار أكثر تأثيرا في النظام العالمي. وذلك في الوقت الذي تراجعت فيه قدرة الولايات المتحدة على التحكم في التفاعلات الدولية في خضم المعاناة من “معضلة القوة الأمريكية”، التي تجلت ملامحها في الهوة الشاسعة بين القدرات العسكرية المتاحة لدولة هي الأكبر من حيث الإنفاق العسكري، وامتلاك أحدث التقنيات العسكرية، وبين التورط في صراعات خارجية، وعدم حسمها، وهو ما أفضي إلى تقويض صورة الولايات المتحدة كقوة عظمي متفردة تستطيع فرض إرادتها.
وفي هذا الصدد، يطرح نعوم تشومسكي، من خلال كتابه “من يحكم العالم؟”، رؤية للتحولات التي يشهدها النظام العالمي في الوقت الراهن، والتي ترتبط بشكل جوهري بالتحولات التي تمر بها الولايات المتحدة، وتراجع نفوذها في الكثير من الأقاليم التي ظلت لعقود حكرا على واشنطن. ويفترض الكاتب -المعروف عنه انتقاده المستمر للسياسة الخارجية الأمريكية- أن السياسات التي تبنتها الولايات المتحدة، خلال العقود الماضية، كان من شأنها التأثير سلبا في النفوذ الأمريكي، فضلا عما أفضت إليه هذه السياسات من أزمات.
التحدي الصيني والروسي:
يبدو تساؤل “من يحكم العالم؟” أكثر تعقيدا في اللحظة الراهنة، حيث لم يعد من الممكن اللجوء إلى الإجابة التقليدية “الولايات المتحدة” للتعاطي مع هذا التساؤل بحسب تشومسكي. فالولايات المتحدة لم تعد هي التي تحكم العالم بشكل منفرد، لاسيما مع بزوغ الفاعلين الآخرين في النظام العالمي، سواء من الدول، أو من غير الدول، علاوة على الدور المتنامي الذي باتت تلعبه الحركات الاحتجاجية العالمية، وتزايد قدرتها على فرض قيود على تحركات بعض الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة.
فالتغيرات التي تشهدها الساحة الدولية في اللحظة الآنية مرتبطة بالأساس الذي أقيم عليه النظام الدولي، عقب انتهاء الحرب الباردة. إذ تأسس هذا النظام على القوة العسكرية الأمريكية، التي كان يستند إليها طيلة السنوات الماضية، لتحقيق درجة من الاستقرار في مناطق رئيسية، في مقدمتها شرق آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط. بيد أن النظام الأمني في تلك المناطق بدأ يتعرض لتحديات جوهرية، وتنازع على النفوذ بين الولايات المتحدة، وعدد من القوي الصاعدة، كالصين وروسيا.
وفي هذا الإطار، يشير تشومسكي إلى أن الصين باتت غير راضية عن السياسة الأمريكية في شرق آسيا، وتعامل واشنطن مع المحيط الهادي بعدّه “بحيرة أمريكية”. ومن ثم، سعت بكين إلى تعزيز نفوذها بالمنطقة عبر مسارين رئيسيين، أحدهما المسار الاقتصادي والتجاري، وذلك من خلال عدد من المشاريع، أهمها مشروع إحياء طريق الحرير القديم، الذي يهدف إلى دمج المنطقة تحت النفوذ الصيني، وتوفير مسار للوصول إلى أوروبا، ومنطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط. علاوة على ذلك، فإن بكين تتولي تطوير ميناء جوادر في باكستان، وهو الميناء الذي يحظي بأهمية استراتيجية لدي الصين، فهو من المرجح أن يكون مقدمة لبناء قواعد صينية في المحيط الهندي، فضلا عن أن الميناء سيتيح لبكين موطئ قدم قريبا من منطقة الخليج العربي، وسيعزز من قدرتها على حماية خطوط التجارة البحرية الصينية، وشحنات الطاقة، كما أن ثمة احتمالات بأن يستخدم الميناء مستقبلا لأغراض عسكرية.
وتعتمد الصين أيضا على مسار ثاني متمثل في إنشاء تكتلات موازية، يمكن من خلالها منافسة القيادة الأمريكية. ففي عام 2015، بادرت الصين بإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وشارك في افتتاح البنك في بكين ست وخمسون دولة، بما فيها بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة كبريطانيا واستراليا. ويرجح أن توظف بكين هذا البنك ليصبح منافسا لمؤسسات بريتون وودز (البنك والصندوق الدوليان)، وهو الأمر المرجح أيضا في حالة منظمة شنغهاي للتعاون، والتي قد تصبح في نهاية المطاف قوة موازية لحلف الناتو.
وبعيدا عن الصين، فإن روسيا هي الأخري أصبحت تشكل تحديا للولايات المتحدة. فخلال السنوات الماضية، استند النظام الأمني الأوروبي إلى حلف “الناتو”، أو بمعني آخر على الضمانات الأمنية المقدمة من الولايات المتحدة على أساس أنها الدولة الأهم في الحلف. مثل هذا الأمر يثير هواجس لدي موسكو، التي تطمح، في ظل قيادة بوتين، إلى استعادة مكانتها على الساحة العالمية.
وتستدعي في هذا السياق رؤية لأوروبا الكبري الموحدة، الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك، لبناء شراكة استراتيجية حقيقية بين الدول الأوروبية بعيدا عن التدخل الأمريكي.
ولكن مع تنامي الدور الذي يضطلع به الناتو داخل أوروبا، كانت هذه الرؤية الروسية تتعرض للتقويض التدريجي، فضلا عن أن روسيا باتت تعتقد بأن الحلف يشكل تهديدا حقيقيا لها، نتيجة لتوسعه في أوروبا الشرقية، التي تتعامل معها موسكو على أنها مجال حيوي لها. وقد دفع هذا التوسع روسيا في نهاية المطاف إلى تبني سياسات أكثر راديكالية، على غرار ما حدث في جورجيا عام 2008، ثم في أوكرانيا عام 2014، وهو الأمر الذي كان يبعث في المقام الأول برسالة إلى الولايات المتحدة، مفادها الابتعاد عن مناطق النفوذ الروسي.
معضلة الشرق الأوسط:
يفترض تشومسكي أن السياقات المأزومة التي باتت تعايشها منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، تمثل أحد تجليات أزمة القيادة الأمريكية للنظام الدولي. فقد أثبتت السياسة الأمريكية بالمنطقة إخفاقها. وحتى التوازنات الاستراتيجية، التي كرست لها واشنطن بالمنطقة في عهد القطبية الأحادية، لم تعد قادرة على الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، فضلا عما انطوت عليه السياسة الأمريكية من تناقض واضح بين خطاب المثالية الداعم للديمقراطية وحقوق الإنسان، وخطاب البرجماتية الباحث عن المصلحة، والذي كان يسمح لواشنطن بالتحالف مع أنظمة استبدادية بالمنطقة.
في هذا السياق، يستدعي تشومسكي قضيتين رئيسيتين كان من شأنهما التأثير في الاستقرار بالشرق الأوسط. القضية الأولي هي قضية الحرب الأمريكية على الإرهاب، والتي اتخذت بعدا كارثيا في عهد الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أعلنت واشنطن عن حملة دولية ضد الإرهاب، لتخوض حربين في أفغانستان ثم العراق. ويري الكاتب أن الحربين أدتا إلى تداعيات كارثية بالمنطقة، لا تزال قائمة حتى الوقت الراهن.
فالحرب الأولي لم تؤد إلى القضاء على طالبان، وتنظيم القاعدة، بل بالعكس -وفقا لتشومسكي- قوضت من احتمالات إسقاط طالبان من الداخل عبر المعارضة الداخلية، “فقد اختارت الولايات المتحدة العنف واسع النطاق، بدلا من العمل من الداخل، أو حتى المفاوضات الدبلوماسية الجادة مع طالبان، والتي كان من الممكن أن تنجح”.
أما حرب العراق، فيصفها تشومسكي بأنها “جريمة القرن الحادي والعشرين الكبري”، حيث أدت إلى تدمير الدولة، كما أنها أسفرت عن تزايد النفوذ الإيراني داخل العراق، وإعطاء المزيد من الزخم للتنظيمات الإرهابية التي باتت أكثر قدرة على توظيف الحرب في استقطاب عناصر جديدة. وهكذا، أفضت الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على الإرهاب إلى تعظيم الخطر الإرهابي، وإخراج التهديد الإرهابي من زاوية محدودة في أفغانستان إلى الكثير من دول العالم.
وتنصرف القضية الثانية والأخيرة إلى السياسة الأمريكية الانتقائية في التعامل مع أوضاع المنطقة. ولعل العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية المثال الأبرز على ذلك. فواشنطن تعهدت بالحفاظ على أمن إسرائيل طيلة العقود الماضية بصورة جعلتها تتجاهل كثيرا السياسات الإسرائيلية بالمنطقة والتي تتسم بدرجة كبيرة من العدوانية. ونتيجة لهذا المنحي، تعلن واشنطن عن غضبها تجاه هجمات حماس الصاروخية على المدنيين الإسرائيليين، ولكنها في الوقت ذاته تتجاهل التدمير واسع النطاق الذي يتعرض له قطاع غزة بفعل القصف الإسرائيلي.
ويخلص تشومسكي إلى أن مفهوم “الذاكرة الحية” Living Memory باستدعاء “جرائم الآخرين ضد الغرب واستبعاد جرائم الغرب ضد الآخرين” لم يعد من الممكن التعويل عليه كثيرا في تعاطي الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط، وغيره من الأقاليم، وعلى الولايات المتحدة أن تبحث عن مبادئ فعلية في سياستها الخارجية. وقد يكون الرأي العام الداخلي الفاعل الأهم القادر على إرغام صانع القرار الأمريكي على الالتزام بهذه المبادئ.
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)