موت الصحافة أو أزمة جيل ما بعد الحرب؟
نحن في هذه المرحلة نودّع صحيفة عريقة شكّلت مركز ثقل ثقافي لبناني وعربي، ونشهد انسداد أفق مؤسسات إعلامية أخرى مكتوبة ومسموعة ومرئية، أكان انسداداً في مصادر التمويل والدخل أو في الأداء المهني بذاته. فلنعترف أننا في نفق مظلم، في نقطة ما منه، وأن كثيرين على قناعة مطلقة بأن ما تعيشه الصحافة ـ المكتوبة تحديداً ـ ليس مجرد أزمة عميقة، إنما هي تعيش موتها.
النقاش في مدى صحة أي من الطرحين عقيم، الانتكاسة المفجعة تتعدى عالم الإعلام بذاته لتكشف أزمة الدور اللبناني في المنطقة وتراجع بيروت ـ كما عواصم الثقافة العربية الأخرى ـ عن الريادة وعن الإنتاج الثقافي بمختلف تفرعاته، وعن كون هذه المدن، ومنها بيروت بالتحديد مختبراً للتفكير.
أسباب الأزمة كثيرة، فلا يمكن لسبب واحد فقط أن ينتج التراجع الذي نشهده في عالم الإعلام. وهنا لا بد من استطراد، فحين نتحدث عن أزمة إعلام لا يجوز حصرها بالمكتوب الورقي. لنتابع تراجع الإنتاج التلفزيوني، وتراجع مركز الوسائل التلفزيونية، حيث كانت محطتا «أل بي سي» و «المستقبل» تحتلان لسنوات مكانة مهمة على خريطة الفضائيات العربية. أما اليوم فلا مكان ولا مكانة لأي محطة تلفزيونية لبنانية في هذا المضمار.
أسباب الأزمة كثيرة إذاً. الصحافي المرجعي جهاد الزين كتب قبل أيام (في صحيفة «النهار») لافتاً إلى أن المال السياسي أحدث «كسلاً يمكن أن نعتبره تاريخياً في الصحافة اللبنانية»، وشدد على أن حجم الكسل ناتج أيضاً عن «ابتعاد أو ترهل العلاقة بالسوق الطبيعية الحقيقية».
ما يهمنا الآن هو عجز الأجيال الجديدة من الصحافيين عن الخروج من «جلباب» جيل الكبار. كانت الصحافة اللبنانية منذ الستينيات بشكل خاص تعيش ازدهاراً اقتصادياً سببه تدفق منابع التمويل لها، وهو تمويل سياسي من الخارج بغالبيته العُظمى. لكنها عاشت أيضاً ازدهاراً مهنياً، وتحولت أعمدة الصحف وأقسامها منابر لأبرز الأسماء، ومختبرات لتخريج صحافيين لا يمكن إلى اليوم التشكيك بمهنيتهم العالية. كذلك الأمر بالنسبة إلى «تلفزيون لبنان» (الذي قتله رجال السلطة عندنا) وإلى الإذاعة اللبنانية التي احتضنت صحافيين وفنانين من أشهر أعمدة الموسيقى العربية. كما كانت البديل الذي لجأ إلى أروقته فنانو الإذاعات الفلسطينية المهمة بعد النكبة، ووفرت لهم شروط الإنتاج المتميز.
الحرب الأهلية ذاتها لم تقتل الإعلام اللبناني بصفته متقدماً في هذه «الصنعة». كان زخم «الكبار»، ناشرين وصحافيين، صمام الأمان الذي تمكّن من حماية الإعلام من ضربات الحرب القاتلة. وما زالت ماثلة في ذاكرة العاملين في المجال حكايات عن صحافيين ناموا على سلالم مؤسساتهم خلال الإجتياح الإسرائيلي لبيروت خوفاً من أن تتقطع طرقاتهم عنها إذا غادروها، أو خوفاً من أن يمنع غيابهم هذا صدور صحفهم أو مجلاتهم أو إذاعاتهم.
لقد أدى الجيل السابق ـ أو بالأصح الأجيال السابقة ـ المهمة بنجاح، حيث تم التأسيس لتراث مهني غني، من دون أن تكون الصورة وردية. والخلل الذي لم يُحكَ عنه في ما قبل تكشّف من خلال الأزمة العميقة للإعلام اللبناني حالياً.
هذا عن الأجيال السابقة التي تركت بصمتها، وقد صار الأصغر سناً بينها على أبواب التقاعد. المشكلة تكمن في تقاعس الأجيال الجديدة: نحن الذين نتوافد إلى الإعلام بعد انتهاء الحرب الأهلية، لم نطلق مؤسسة عصرية تحاكي أدوات العصر، وهو عصر التسارع التكنولوجي ضمنه تسارع وسائل الاتصال والتواصل. وفي هذا الإطار يمكننا التنبه إلى غياب الصفحات العلمية والتكنولوجية المتخصصة من وسائل إعلامنا.
لم تخرج إلى اليوم تجربة واحدة تنتمي إلى العصر الجديد. استُخدم «الإنترنت» كحائط تُنقل عليه تجارب الإعلام الكلاسيكي بحرفيتها، من حيث الشكل والتمويل والمضمون، مع تراجع كبير في الأداء المهني، حتى صار الإعلام في ذهن نسبة من المتلقين عبارة عن مجموعات من البرامج التي تنتمي إلى عالم الصحافة الصفراء والإثارة الرخيصة والمعلومات المركبة.
إنها مشكلة جيل عاجز عن إحداث تغيير حقيقي برغم رغبته بذلك، وربما الإنكسار الذي يشهده عالم الإعلام اليوم هو محفز أو تحدٍ لأبناء المهنة من الجيل الشاب ليثبتوا أنهم قادرون على إضفاء تركتهم على السجل الحافل للإعلام اللبناني. بل هي فرصة لمختلف شرائح هذا الجيل لأن تتصالح ـ من خلال الصحافيين ـ مع القدرة على الفعل، أن تتحول من متلقٍ غاضب ولكن سلبي لا يعرف كيف يُغادر منطقة المفعول به ليصير فاعلاً ناجحاً، لا مجرد مراهق يُعاند والديه ويعيش في ظلالهما.
صحيفة السفير اللبنانية