موت فقاعة والسرد النبيل المقاوم
تحتفي مجموعة قصص “فقاعات صابون” للقاصة فاتن فاروق عبدالمنعم بقيم فنية للسرد القصير، منها متعة الحكي، وإحكام وثاق القارئ حيث المتعة جسر الفن القصصي، رغم واقعية القصص، وسحق شخوصها الأبرياء، وانفصام المثال عن الواقع، وضيق التنفس الاجتماعي، وبنية أخطبوط الفساد السام، فكانت القصص: “وجبة مرة شهية التناول”، حيث كانت المتعة الفنية جسرًا لتقديم ملامح الواقع الكئيب، فالقصص من لون “الواقعية الانطباعية”، أي ما يتركه هذا الواقع من انطباع في ذات الأديب.
وكان الشاهد الرئيس استعمال معنى “الفقاعة” لتعادل الشخصيات القصصية المقهورة، و”الفقاعة” أرحب في التعبير من فكرة السحق أو الدهس للمهمش بفعل سلبي من آخر مستبد، حيث “الفقاعة” كائن شديد الهشاشة والضعف، لا يتم سحقها بل يتم بعثرتها بنفخة هواء واهنة، وفعل يسير للغاية. فالسحق يتطلب كيانًا يتمتع بالتماسك بدرجة ما ليتم تفتيته بالقسر والتنمر. بالتالي كان مركز الثيمة الموضوعية في القصص تعيد الإعتبار للفكرة المشهورة بكون القصة القصيرة “صوت الطبقات المسحوقة” وأنها معزوفة التوتر الإجتماعي، ودال خشونة المفاصل الطبقية للمجتمع بنحر الطبقة الوسطي.
القصص تميزت بالعرفانية وتشرب الوعي القيمي بتجليات تمثلت في العبرة وتجلي النص الشريف، وهي رحبة في القصص، مثال: “فيتمثل لي كائنًا رقيقًا جميل الخلق والمحيا بشرًا سويًا”
كما تمثلت بالقصص مفارقة الحجم بين الجسيم العملاق والنحيف الضعيف، وتصل ذروتها بتقزيم الوطن نفسه، في قصة “رجل لكل العصور”: “وتقوقعت مصر وتقزمت وكبر صاحبنا”، وتصل حدود السخرية، في قصة “فقاعات صابون” حيث الابن المكلوم في أمه التي توفيت بإهمال مستشفي استثماري شره، يقول ص 26 (“بتصرف): “جسمي كما كانت تصفه أمي، سفيف، قصير ونحيل، فماذا أفعل بهذا المكون النحيف، فلو أني ذهبت للمستشفي، وقفزت في الهواء كالوطواط، ثم سقطت فوق مدير المستشفي بكل ثقلي، ما أثرت فيه … ليس أمامي إلا اتباع نظام غذائي معين، به يزداد وزني .. ويرافق هذه المداومة على تمرينات رياضية لتنتفخ عضلاتي، فإذا قفزت في الهواء وسقطت على مدير المستشفي يصبح لي ثقل يؤلمه”.
كما نجد المفارقة بين المظهر والمخبر، وحقيقة الإعاقة بين العفيف والمبتذل، وجميعها تنويعات عن لقاء الصدمة بين الإنسانية المسحوقة والفعل السلبي القاسي لسلطة جائرة. وحيث الفقاعات منوعة بين البطل “اللابطل” في قصة معنونة “بكر في المحروسة” عن الريفي الأزهري الباحث عن وهم السعادة الذي خدعته بيسر فتاة قاهرية، وشخصية “انجي” في القصة المعنونة “عيد زواج” وهي الفنانة الملاك المقهورة بالغفلة من الزوج اللاهي، وتنويعات أخرى.
وجاءت القصص من رحاب الرصد للنفي الحضاري والتصدع الثقافي، ورغم جهامة قسوة السحق للفقاعات، يبث السرد ترددات لثقافة المقاومة، ورغم عدم الجدوي لكن يظل إعلاء قيمة المقاومة في ذاتها ونبلها المنشود.
وتتعدد نماذج الإنسان المقهور والمقاوم في آن واحد في القصص، ففي قصة “فجوة” نجد البطل النبيل في مواجهة أخطبوط الفساد، يقول ص 54 (بتصرف): “… ذوي سلطة ونفوذ، مثله لا يمكنه الإيقاع بهم، ومثلهم يتصدرون جل المؤسسات، تلك المؤسسة الكبيرة التي عمل بها يقف منفردًا في وجه أخطبوط متعدد الأذرع والمخالب (..) فجوة كبيرة تفصله عنهم دائمًا، شق لا يمكن رتقه”.
وتنتهي القصة بنحر الفعل المقاوم، يقول ص 56: “… توقف حتي استراح، عاد مصحوبًا بخيبة الأمل، ساخرًا من نفسه وحساباتها غير الموزونة وسذاجته المفرطة، فقد تصور أن مبتغاه قطوفه دانية بينما هي منه ببعيد، مسح وجهه المغبر بعد أن اختلطت رذاذ الأتربة بعرقه غير المثمر ثم قام يسير خائر القوى، عائدًا بخفي حنين”.
وفي قصة “نثار اللحظة” نجد الفتاة المعلمة محبة الرسم، جميلة الروح، والتي تتعاطف مع المهمشين عبر فعل خيري بالتدريس لمحو أمية فتيات صغيرات السن ما بين الثانية عشرة والتاسعة عشرة، بإحدي الجمعيات الخيرية، ويظهر ثالوث الفقر والمرض والجهل القبيح ليغتال إنسانية الفتيات. وتظهر اللمسات الإنسانية بالقصة عبر تقديم تلك الآمال البسيطة جدًا لهن في الحياة بتعبير القصة.
تجلي فعل المقاومة عبر التواصل الإنساني والتنوير عن إرادة الحياة، يقول الراوي الذاتي بالقصة ص 71: “فتياتي اللاتي أدرس لهن في محو الأمية كن شاشة عرض جديدة لي، أرى من خلالها بشرًا يتعايشون مع ظروفهم القاسية بتقبل عجيب”.
وتقدم القصة فكرة جيدة حول جمال المراة وصلته بثقافتها الخاصة، وتأكيد الهوية كوسيلة للمقاومة، ص 69: “الجمال هو أن يكون كل شيء في المرأة عبرًا عنها، تاريخًا وثقافة ومخزونًا حضاريًا، ومن تشذ عن هذا تصبح مسخًا”.
وإذا كان عنوان القصة يشير لنثار اللحظة المنتقاة من مأساة الحياة، فإنها تشرح فكرة العين القصصية المبصرة الطوافة، وهذا الشأن نجده في عدد كبير من القصص التي تبحث في الطرق وعربات المترو، ومحطات القطار، وعلى الأرصفة، وفي القصة بين أيدينا تقول ص 71: “… ثم الجمعية الخيرية التي جعلتني أرى عوالم، ما كنت لأكتشفها لولا التجوال مع هذه الجمعية، فأرى حيوات مختلفة لآخرين”، ومن رحاب هذه الفكرة نجد القصة الأولى في المجموعة الموسومة “تنهيدة” والتي تقدم نموذج القصة القصيرة التي لا تنتقي لحظة قصصية بعينها، بل تقدم حياة كاملة، ودال هذا الشأن هو النهاية المفتوحة التي تمنح فكرة أبدية الشقاء، وديمومة الفجيعة للمهمشين الذين لا يجدون حاجاتهم الأساسية القابعين تحت حائط خط الفقر الثقيل، حيث لون العشوائيات الممتزجة بالحضر وحجرة تسكنها عائلة داخل شقة مؤجرة لأكثر من عائلة بائسة.
والقصة عن أحد الباعة الجائلين الذين يتنقلون لبيع بضاعتهم المزجاة الضئيلة في وسائل النقل العام، وما يجدونه من آلام، تقول خاتمة القصة في مماثلة سردية مع الطبيعة ص 6: “… وتلك الأوراق الذابلة، التي سقطت تحتها تعلن إنتهاء الحياة فيها، وتجلي قانون الطبيعة (البقاء للأقوى)، هو يشبهها ولكن الفارق كبير بينهما، هي أذعنت للحقيقة وهو يحتج ويعاند ويكابر، ويبعث الحياة كل يوم في ميت موتًا محققًا، يلهث خلف آمال وضيعة، لن تتحقق”. وتزخر القصة بتعبيرات عن الواقع المر: (البصق علي مفردات حياته / كلنا عاري الظهر / أجساد تمازجت مهزومة).
أما القصة الأخيرة في المجموعة والمعنونة “برفقتها”، فتقدم من خلال راويها الذاتي اللص الذي ينفذ عملية سرقة ثقيلة لشقة سكنية فاخرة في عمارة مأهولة بالسكان، ولعدم خبرته الكافية ولجرأته سقط وأخذ جزاءه في القصة ضربًا وصفعًا وشتمًا، ولكن القصة تقدم للقارئ لحظات تعاطف إنساني عميقة، وتسكن التفاصيل فكرة النحر الطبقي، فالعمارة ذاتها تمثل طبقة مخملية في المجتمع، حيث العطور والنساء الناعمات، والرجال يبحرون في النعماء والمتع، بينما اللص يمثل طبقة مهمشة تلجأ للجريمة، وليمثل لنا فقاعة إنسانية.
نسيج القصة يتعاطف مع لحظات الضعف الإنساني، حيث إن لحظة السقوط الإنساني قد يكون نتيجة الثالوث المرعب (الفقر / الجهل / المرض). والأداة الفنية للقصة لتحقيق قصديتها تمثلت على مستوى أنسنة القطة: “في عينيها حنان عجيب”، والأنثى التي مثلت الأمومة، يقول ص 109: “تناهي إلى سمعي، إحداهن تقول لزوجها: أعطه هذا العصير والساندويتش. فقال متوعدًا: بل يبيت علي البرش”، وتنتهي القصة بخاتمة حزينة، حيث مشاعر الفقد للتواصل النبيل: “مواء حزين من رفيقتي التي تبعتني بعيونها الدامعة ومعها يتلاشي صوتها تدريجيًا، لم تتمكن من مرافقتي في سيارة الشرطة، فطواها الغبار الذي أثارته السيارة، وهي تسارع متباعدة”.
القصة لا تتعاطف مع الجريمة – كما أرى – حيث نال اللص جزاءه، لكنها تتعاطف مع حقه الإنساني في حياة كريمة من الأساس، وتثوير إنسانيته، حيث الإحتفاء باللص الكبير في مقابل العصف ببطل القصة “إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”.
بالتالي تبدأ المجموعة بقصة “تنهيدة”، وتنتهي بقصة “برفقتها”، وتشكلان معًا قوسين من ناحية الأسلوب الفني، الأولى “حالة” وتأريخ لأبدية الفجيعة اليومية لمهمش يتكرر يومه بلا توقف، في خاتمة يعلم القارئ أحداث ما بعد القصة، وهي تكرارية لحياة مقهورة مستمرة، والقصة الأخيرة لحظة قصصية منتقاة لإنسان لوثته الجريمة لمواضعات اجتماعية فاسدة. وما بين القوسين قماشة رحبة عملت القاصة علي حياكتها في (22) قصة أخرى، سواء في الثيمات الموضوعية أو التشغيل الفني، وحفلت بالأسلوب المجازي، فحققت المتعة الفنية بمزجها بالواقع.
كما جاء بأيقونات المقاومة بالقصص الأمومة، يقول بطل قصة “فقاعات صابون”: “قنطرة المرور إلي قلبي هي أمي”، “أشعر بها تربت علي كتفي، ثم تضمني بذراعها، تقول في حنو بالغ: حبيب أمك، يا قلب أمك، تواسيني لفقدها، الذي ألهب ضلوعي”.
كما تميزت القصص بالعرفانية وتشرب الوعي القيمي بتجليات تمثلت في العبرة وتجلي النص الشريف، وهي رحبة في القصص، مثال: “فيتمثل لي كائنًا رقيقًا جميل الخلق والمحيا بشرًا سويًا وبالقصص نبوغ الرمز القصصي ليرقي إلى قصة الكناية، وتقدير الأنثي والأمومة المضيئة، رغم ما يتعرضن له من قهر. وحقق المعادل الموضوعي الكلي المفارقة في اللحظة القصصية عبر مفارقة الحجم بين الجسيم العملاق والنحيف الضئيل، وعبر فكاهة داكنة، وتنوع أساليب الراوي، قدمت لنا القاصة وجبة قصصية فاخرة، وتراسل من ثقافة ازرع الفسيلة والقيامة قائمة.
ميدل إيست أون لاين