موسم الهجرة إلى الشمال

من ذكرياتي الحلوة لقاء حميم جمعني ذات يوم بعيد في تونس بالكاتب الروائي الشهير السوداني ” الطيب صالح ” في أحد مهرجانات اتحاد الكتاب العرب الثقافية حيث اكتشفت فيه إنسانا عميق الثقافة بالغ الظرف إذ أسمعنا في مجلس سمر قدرته اللماحة على الحديث الجاد و المرح في آن واحد و خاصة حين أنشدنا قصيدة كاملة للمتنبي و غيره من الشعراء مما أكد لنا أنه ابن التراث العربي بقدر ما هو ابن الثقافة الأجنبية التي تلقاها في دراسة جامعية له في انجلترا.

أروي هذه الذكرة لأنني عدت قبل أيام و أنا أنقب في مكتبتي عن رواية لم أقرأها بعد أو أنني قرأتها منذ أمد بعيد فإذا بي أجدني أمام الطيب صالح مرة بعد أكثر من ثلاثين عاما على ذلك اللقاء في تونس عبر روايته المشهورة جدا ( موسم الهجرة إلى الشمال) التي قرأتها كما أذكر أكثر من مرة و أنها كانت في كل مرة تثير إعجابي الشديد بهذا الروائي الموهوب . لم أتردد طويلا أمام هذا العنوان إذ سرعان ما سحبت الكتاب من على الرف المكتبة و انغمست على الفور في مطالعة هذه الرواية مأخوذا بها و كأنني أقرؤها للمرة الأولى.

يالها من رواية خارقة لم تفقد إثارتها لي بعد كل هذه السنين و الذكريات عن مؤلفها الذي صمت عن الكتابة بعد ثلاثة أعمال مقصية كما أذكر أضافتها إلى روايته المذكورة ثم صمت نهائيا عن الكتابة .

أنجزت قرائتي لهذا العمل الروائي الرائع بأسرع وقت و لم أفرغ منها حتى هاجمني هذا السؤال لماذا حقا لم يتابع الطيب صالح تأليف الروايات و القصص وهو قادر على ذلك أكثر من غيره من السودانيين أو من العرب عموما ؟.

ولماذا اكتفى بهذه الرواية وحدها مع عدد بسيط من الأعمال الأخرى التي لا تقاس إطلاقا ” بموسم الهجرة إلى الشمال ” .

الرواية هذه باختصار شديد أشبه بسيرة ذاتية يرويها أحد السودانيين العائدين إلى وطنهم في قرية جنوب السودان حيث يلتقي بالبيئة المختلفة التي عاد إليها و إذ هي على حالها إلا من شخص طريف غريب اسمه ” مصطفى سعيد ” لا يعرفه أكتشف فيه مثقفا واسع المعرفة بعد سبع سنوات من الدراسة ثم سنوات أخرى من الأسفار عبر بلدان مختلفة و سيرة خارقة مع النساء و الأجنبيات و الذي اختار قرية راوي القصة لإقامته و زواجه مع أنه من بلد قرب العاصمة الخرطوم هذا الشخص الذي غاب فجأة بعد فيضان ساحق لنهر النيل و لم يعرف احد أين هو أو أين جثته على الأقل …

رواية صب فيها الطيب صالح روحه كلها كمواطن عرف الغرب جيدا و زاد في فجيعته بمقتل هذا الشخص العجيب أو اختفاؤه و كأنه رمز للفوارق الحضارية الكبرى فهو أوروبي خالص الانتماء و الثقافة و الذكاء كما هو في الوقت ذاته السوداني المثقف الوفي لبيئته و القادر على المشاركة في نهضتها لو أنها نهضة ممكنة حقا.

لاشك أن الطيب صالح توقف عن الكتابة ذلك لأنه فعلا كإنسان صب في عمله أكثر من أي كاتب عربي أخر روحه ووجدانه و طاقته على التفكير و الإبداع و التعبير ثم توقف بعد ذلك لا لشيء إلا لأنه وهب دفعة واحدة كل مالديه على العطاء في عمل واحد …ثم صمت …

يجب على كل من لم يقرأ بعد هذه الرواية أن يقرأها لأن كل ما قلته عنها هنا لا يساوي نقطة في بحرها ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى