موظف لؤي شانا وموظف تشيخوف : اعطس ولا تخف !
خاص :
نشر الكاتب الروسي أنطون تشيخوف قصته القصيرة ( وفاة موظف) عام 1886، ومنذ ذلك الوقت والقصة تنتقل من لغة إلى لغة وتثير اهتمام القراء والنقاد وحتى السياسيين، وكانت ترجمتها إلى العربية مفتاحاً ليتلقفها المسرحيون ويقتبسون منها عروضا مختلفة.
وفي مضمون القصة أن موظفاً بسيطاً اسمه إيفان ديمتريتش وقع في أزمة، فبينما هو يتابع إحدى العروض على خشبة المسرح عطس على رأس رجلٍ يجلس في الصف الذي أمامه، ليكتشف أنه جنرال من جنرالات السلطة الروسية واسمه بريزجالوف!
يندفع إيفان لتقديم الاعتذار للجنرال بأخلاقية عالية وخوف وحرص، ورغم أن الجنرال يغض الطرف عن المسألة تشتعل الهواجس في نفس الموظف إلى أن تنتهي القصة بموته، وهي في النقد الذي أنتجته الواقعية الاشتراكية كانت تعبر عن نوع من الاستلاب الذي تعيشه البرجوازية الصغيرة في روسيا وترددها وضعفها وخوفها.
وعلى خشبات المسرح السوري تحولت القصة إلى أكثر من عرض مسرحي، وظهرت مرة على الشاشة في (مرايا ياسر العظمة) وشاهدناها مؤخراً على خشبة مسرح الحمراء في دمشق في رؤية جديدة لنص كتبه وأخرجه المخرج لؤي شانا، فماذا فعل لؤي في النص، وكيف بنى فكرة جديدة على تفاصيل القصة التي جاءت في نص تشيخوف صادمة في نهايتها بموت الموظف ، كما يفعل تشيخوف دائما في نهايات قصصه !
استند عرض لؤي شانا على أربعة مرتكزات دفعة واحدة :
أولها : بناء جديد للنص يتابع فيه ما لم يتحدث عنه تشيخوف بعد موت الموظف.
ثانيها: كسر لؤي شانا الفكرة النقدية لعجز البرجوازية الصغيرة، فقدم رؤية تثير اهتمام النقد والسياسة معاً مفادها أن البرجوازية الصغيرة يمكن أن تكون مفتاحا ً للتغيير (!!).
ثالثا : لكي يثير اهتمامنا أكثر بمتابعة القصة ، لجأ إلى تصعيد درامي بعد موت الموظف، فجعله يموت في الربع الأول من المسرحية، ولجأ أيضا نوع من الكوميديا خفيفة الظل ترغمنا بعفوية على نسيان قصة تشيخوف ونهايتها الصادمة .
رابعا : بناء مشهدية غنائية لافتة أضفت على العرض خصوصية أمتعت المشاهدين الموجودين في الصالة، وبطبيعة الحال كان السينوغراف مفتاحاً لتلك المشهدية والمعطيات الفنية المضافة في الصوت واللون والإضاءة وبقية المؤثرات.
في الاقتباس الذي اشتغل عليه لؤي شانا، يموت الموظف (كما أشرت) بعد وقت قصير من بدء العرض، أي أنه أراد إشادة البناء الجديد على اللحظة الصعبة التي صدمنا فيها تشيخوف، ولم يكتف بذلك، بل قدم شرائح أخرى أصيبت بحالة الموظف نفسه أمام الجنرال، أي أنه فتح الظاهرة الفردية وهي (العجز) على ظاهرة جماعية. وهذه نقطة مهمة جدا في تطوير الاقتباس، وتحويل الفرد إلى مجموع (شرائح)، لكنه لم يهمل الموظف بل حوله إلى طيف، وكأنه يعود إلى الأدب الروسي ، ليذكرنا بمعطف غوغول ، فإذا بالموظف يعود (برداء أبيض)، ويؤسس لظاهرة (نقيضه) تتجاوز الخوف إلى الجرأة (الرد الاجتماعي) ، ويقوم هذا الطيف بما عجز عنه عندما وقعت في المأساة بقيادة أوركسترا العطس (التدريب الجماعي) وهي هنا بالمفهوم الطبقي مفارقة سيرد عليها الماركسيون، بأنه كان عليك أن تحول الموظف إلى عامل في مصنع، ولأانه لايريد أن ينسف شخصية الموظف عند تشيخوف أي رؤيته للدور (البرجوازية الصغيرة)، أبقاه موظفاً لكنه أراد أن ينقذه من العجز، وعلى ذلك غدت المسرحية أكثر تماسكاً، بل ووجدت لها مرتكزات أخرى في العملية الدرامية .
كان جمهور العرض مرتاحا للفكرة والتفاصيل، وساهم في هذه الرحلة التي رافقها تفاعل ملحوظ، نوع من صناعة الصورة على الخشبة، في إتقان سينوغرافي وبصري وغنائي معا ، فإذا نحن في قلب المشهد ، نحسه ونتفاعل معه، ونفهمه، وعندما نحسه ونتفاعل معه ونفهمه نتبناه، أي أن الموظف في رؤية (لؤي شانا الجديدة) ليس عاجزاً ولا خائفاً ولا متردداً، وإنما هو قادر على الفعل ، وعليه أن لايموت .
هذا هو جوهر عملية الاقتباس، عملية ناجحة ، تحمل رؤية جديدة لنص من القرن التاسع عشر، وتقدمه لجمهور من القرن الحادي والعشرين بأدوات العصر وإمكانات الظروف الراهنة، فإذا بالمحاولة والاجتهاد تجعلنا إلى صفه !