مولوتوف (محمد صلاح)
محمد صلاح
اختفت وجوه كانت لمعت منذ تفجر ثورة 25 يناير وحتى يوم التنحي. وبمرور الوقت توارت، أو خفت وميضها، أو اكتفت بما قدمت، أو نالت ما كان تتمنى، أو فازت بما لم تكن تحلم، أو أنهت أدوارها، بينما بقيت وجوه أخرى على مواقفها من دون أن تبدلها حتى، وإن اختلفت المواقع التي صارت فيها بعد الثورة: في الحكم أو القوى المتحالفة معه، أو المعارضة بمختلف أطيافها، فيما تبدلت وجوه عما كانت عليه أثناء الثورة، إذ صارت تتبنى مواقف غير تلك التي عهدها الناس منهم. لكن بقي فصيل كما هو، لم يبدل أصحابه أساليبهم أو منطقهم أو مواقعهم، هم دائماً في مقدم الصفوف مهما كانت الظروف أو الأسباب. نتحدث عن قاذفي الحجارة والمولوتوف: هؤلاء المتهمون بالعنف واستهداف الشرطة ومعاداة الحكم في عهد مبارك، وأثناء إدارة المجلس العسكري للأمور، وكذلك في زمن «الإخوان».
لم يخف فصيل سياسي واحد في مصر مخاوفه من ان «ثورة جياع» ستنفجر وستأتي على الأخضر واليابس إذا استمرت الأوضاع السياسية على حالها، وإذا بقي الوضع الاقتصادي متدهوراً وما دام الوضع الأمني مهترئاً. حتى أن «الإخوان» وحزب «الحرية والعدالة» وحلفاءهم من الإسلاميين الآخرين أطلقوا، كما حال قوى المعارضة، تحذيرات مماثلة قبل وبعد وصولهم إلى الحكم، وكذلك يفعل رموز جبهة الإنقاذ وباقي فصائل المعارضة كلما زادت الأزمة احتقاناً والشارع لهيباً، لكن أحداً من أطراف اللعبة السياسية حتى الآن استجاب لنداء أو تنبه للتحذير أو قدم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الضيقة، بل أن كل طرف، كما نرى، يلقي باللائمة على الطرف الآخر ليس فقط في التسبب في العنف ولكن أيضاً في التسريع لبؤرة الجياع. دائما ما تبدأ الاحتجاجات سلمية: مسيرات اعتصامات وقفات، لكنها أيضاً لا تكاد تنتهي إلا ويكون العنف قد تفجر والدم قد سال، بعد كر وفر وحجارة ومولوتوف في مواجهة قنابل غازية، وخرطوش في مواجهة خرطوش، فيقفز إلى واجهة المشهد هؤلاء الصبية الذين تتنصل كل الأطراف منهم لاحقاً. بل أن كل فصيل يلقي بالمسؤولية على الطرف الآخر ويتهمه بأنه يحركهم بل.. ويدفع لهم، ويسرد من من الأدلة والبراهين والأسانيد ما يدعم كلامه، لكن يبقى المشهد قائماً: الصبية يرشقون الشرطة بالحجارة ثم المولوتوف فترد بالغاز وبعدها يدخل الخرطوش طرفاً وربما الرصاص الحي. فيقع «الشهداء»: وتستمر الأزمة.. بل تزيد.
الحكم ومعه كل الإسلاميين يؤكدون أن جبهة الإنقاذ وباقي قوى المعارضة والناشطين السياسيين مسؤولون عن التظاهرات وخروجها عن السلمية، بل أن بعض الإسلاميين يتهمون صراحة القائمين على الاحتجاجات بالتخطيط للعنف واستخدام الصبية الصغار للإساءة إلى الرئيس وهيبته وإفشال مؤسسات الدولة والعمل على انهيارها! في المقابل، فإن المعارضة التي تتنصل عادة من العنف وأفعال الصبية وتنأ بنفسها هي الأخرى عن الدفاع عنهم بل في أحيان كثيرة تتهم الحكم نفسه رئيساً وحزباً وجماعة بجلبهم ليسيئوا إلى التظاهرات السلمية. وسواء كان هؤلاء يندفعون إلى المواجهات تلقائياً ومن دون أن يحركهم أي طرف في السلطة أو المعارضة فإنهم أصبحوا «حالة» وظاهرة تستحق الوقوف أمامها والبحث فيها والوصول إلى نتائج في شأنها، وتجاوز أهداف السياسيين ومصالحهم من استخدامهم أو التنصل منهم. إنهم المهمشون الغاضبون من كل نظام وربما أي معارضة، اليائسون من جدوى الاعتماد على السياسيين، والباحثون عن حقوقهم بطريقتهم التي قد تكون خطأ ولكنها بالنسبة لهم مجدية ومثمرة. نعم يحطمون أو يدمرون أو يحرقون، لأنهم ببساطة محطمون ومدمرون ومحروقون، ليسوا إخواناً ولا «إنقاذيين» ، ولا وفديين أو ناصريين، ولا سلفيين أو يساريين. هم الكادحون العاطلون الذين كانوا وقود الثورة ثم وجدوا أنفسهم يكتوون بنارها ويدفعون وحدهم ثمن المقعد الذي فاز به «الإخوان»، والأضواء التي أحاطت بالمعارضة، فقرروا أن يحكموا أنفسهم.. بالحجارة، وأن يجذبوا الأضواء.. بالمولوتوف.
صحيفة الحياة اللندنية