“موندو وحكايات أخرى”: محاولة لفهم جوهر الحياة
يقتحم جان ماري غوستاف لوكليزيو في “موندو وحكايات أخرى” العالم الهامشي للمجتمع المعاصر لتكون مثالاً عن الروح التي تفر نحو الفطرة وتبحث عن الهوية في ظل الضياع الذي أحدثته الحداثة التي سحقت الروابط الاجتماعية والإنسانية في مقابل الأنانية والمصلحة الذاتية.
نقل الكتاب إلى العربية المترجم “عماد موعد”، ونشرته الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2016.
يقدم الكاتب رحلات ومغامرات تتمحور حول محاولة فهم جوهر الحياة وحقيقة العالم الذي نعيشه، وحقوقنا وواجباتنا الحقيقية في هذا الكون، وعدم قدرتنا على تحقيق الذات وفهم ماهية الحرية الحقيقية، وكيفية الوصول إلى السعادة.
وربما وجد الكاتب لوكليزيو ملاذه في براءة الطفولة ونقائها ليصور مستعيناً بها هواجس النفس البشرية العارفة بحقيقة الظلم الذي نشرته الحداثة والحضارة لينقل لنا نداءات الأصوات التي لا يسمعها أحد ويكسر الصمت الذي يحيط بها، والتي غالباً ما يكون مصدرها بلاد أو أشخاص لم تمسها لعنة الحضارة وبقيت على فطرتها تقاوم قساوة العيش بالنقاء والمحبة.
وظّف لوكليزيو في كتابه الطبيعة لتكون المعادل الوحيد للصدق والنقاء بعيداً عن المدن والتمدن والحضارة، واختار أطفالاً يعانون الوحدة وغياب الآباء ووزع عليهم بطولات مغامراته الخيالية، لأنه يرى أن “الطفل كائن سحري يحدق وحده إلى جوهر الأشياء”، ويشير من خلال شخصياته إلى النفس البشرية الحرة التي تحاول العيش خارج القواعد المفروضة وتدير ظهرها للعالم المتحضر.
يبدأ لوكليزيو حكاياته مع “موندو” الطفل ذي الشعر الرمادي، إبن السنوات العشر الذي جاء من حيث لا يعرف أحد وعاش في مدينة نيس.
موندو طفل يعاني تخبطاً يبدو واضحاً في قصته وهو الخوف من عالم الراشدين الكبار وشعوره بالوحدة الذي يدفعه بين الحين والآخر إلى توقيف المارة في شوارع المدينة وسؤالهم من دون معرفة سابقة بينه وبينهم: “هل تريد أن تتبناني”. كما أنه دوما يقترب من الناس ويراقبهم من بعيد ويتحدث معهم في موضوعات عدة من دون أن يترك موعد للقاء ثانٍ، ويختفي ليختبئ على شاطئ البحر بين الصخور كي لا يجده أحد ويقتحم عليه عالمه الخاص الذي اختاره وجعل من الطبيعة شريكته الوحيدة فيه، حيث أن أقرب أصدقاء موندو هم الشمس والبحر والسماء.
حكاية “موندو” تكشف الدمار الذي حلّ بالروابط الإنسانية، وهالة العنف التي أحاطت بها والقسوة التي باتت من أهم سماتها واليأس المسيطر على النفس البشرية. كما تكشف في خاتمتها حجم الضعف الذي يستملك البشر الذي أشار إليهم الكاتب بسكان المدينة الذين أحبوا “موندو” ولطالما أرادوا رؤيته وضحكوا من مشيته وأفرحهم وجوده. إلا أن أحداً لم يتجرأ على احتضانه وتقديم الرعاية له أو حمايته من الشرطة التي ألقت القبض عليه في نهاية المطاف وساقته ككلب ضال إلى ما يسمى بالرعاية العامة، ليهرب من ذلك المكان من دون العودة إلى المدينة التي بقيت تنتظره بصمت مع سكانها الذين استمروا بالبحث عنه في الطرقات بخجل من دون جرأة عن الإفصاح عن حبهم للطفل المشرد الذي عجزوا عن مساعدته يوماً ما.
يركز لكليزيو في كتابه على المشاكل التي يعانيها المراهقين جراء غياب العائلة والهواجس التي يعيشونها. فحكاية “ليلابي” تتحدث عن مراهقة استفاقت من النوم وقررت عدم الذهاب إلى المدرسة ثانية، فكتبت رسالة لأبيها الغائب طالبة منه القدوم لأخذ المنبه الذي أهداه لها لأنها لم تعد بحاجة إليه، وحزمت ما استطاعت من أغراض وخرجت من المنزل قبل أن تستيقظ والدتها واتجهت إلى البحر خارج المدينة.
يظهر الأثر الكبير لغياب والدها في حياتها وكرهها للتعامل مع المديرة والمدرسين في المدرسة إلى درجة أنها باتت تشعر أن الجدران تطبق على صدرها وستخنقها فراحت تتنزه في الطبيعة بحثاً عن الحرية والراحة، فـ”ليلابي” تخيلت الوجه القاسي للآنسة لورتي فوق صخرة كبيرة بشكل شبه منحرف وظهرها ملتف نحو البحر، كما تخليت معلم الفيزياء يثني عليها لبراعتها في اختيار الطريق بين الصخور.
كانت “ليلابي” تكتب الرسائل إلى والدها طوال فترة غيابه وتخبره بأدق تفاصيل تحركاتها، إلا أن جميع الرسائل كانت تبقى معها من دون أن ترسلها إلى أي مكان. حتى أثناء وصولها إلى البحر جلست بين الصخور وكتبت له عن مغامرتها، لكنها أحرقت جميع رسائلها في لحظة مرح.
استمرت المراهقة بتكرار مغامرتها لأيام عدة بدل الذهاب إلى المدرسة من دون أن تشعر والدتها التي تكاد لا تستفيق من تأثير الحبوب المهدئة التي تتناولها، حتى انتهى الأمر بعودة “ليلابي” إلى المدرسة بإرادتها بعد أن أمضت أياماً مع البحر، وتمكنت من إجبار المديرة على عدم الكتابة لوالدها عما حدث، فقد أصبحت حرة وقوية وتخلصت من كل القيود.
وفي قصة “جبل الإله الحي” طفل آخر يبحث عن الحرية فيصعد إلى قمة الجبل البركاني الشاهق بعد أن جذبه ضوء غريب أعجبه دون أدنى خوف من هول المغامرة مستكشفا ماهيته وباحثاً عن الحرية أيضاً، كما فعل “دانييل” تلميذ الثانوية في “ذلك الذي لم يرَ البحر.. قط”، والذي كان يحب لو ان اسمه كان “سندباد” وعشق البحر الذي قرأ عنه في الكتاب ذي الجلد الأحمر القديم.
دانييل سافر يبحث عن حلمه بالعيش في البحر حيث المياه الحرة التي لا نهاية لها، هرب من مدرسته وهجر المدينة ليذهب إلى حيث لا شيء سوى البحر.
يعيدنا الكاتب في حكاية “دانييل” إلى ذات النقطة التي بدأها في “موندو” القسوة اللامبررة وغير المقبولة في الحياة العملية، حيث أن محضر اختفاء “دانييل” قفل لدى الشرطة والمحققين والمدرسين بأن “هناك عشرات آلاف من الأشخاص يختفون كل سنة بالطريقة نفسها، من دون أن يتركوا أي أثر، ومن دون أن يعثر عليهم البتة. كان المدرسون والمراقبون يرددون هذه العبارة الصغيرة، بهز أكتافهم كما لو أنه كان الشيء الأكثر تفاهة في العالم”. وقد نسوا دانييل بعد فترة من الزمن ولم يعد أحد يذكره سوى أصدقائه الذين لم يعرفوا عنه شيئاً سوى عشقه للبحر الذي لا بد أنه ذهب يبحث عنه، لكنهم كتموا السر عن الجميع، كما لو أنهم عاهدوه على ذلك في ذلك الصباح الذي استيقظوا فيه ونظروا إلى سريره ولم يجدوه فيه.
ينقلنا الكاتب إلى قصة “عجلة الماء” ليعرفنا على “جوبا”، الطفل راعي البقر الذي أخبره أبوه أن اسمه هو ذات اسم الملك الشاب الذي كان يحكم مدينة “يول” التي يراها جوبا خلف الحقول والتي تحولت إلى مدينة تسكنها الأرواح بدلاً من البشر.
جوبا الذي يحرّض الثيران للدوران لتحريك عجلة الماء ودفع الماء في الساقية الذاهبة إلى الحقول كي تشرب، تحول في خياله إلى الملك جوبا الذي يحكم مدينة “يول” والذي تهتف له الجموع ويحبه شعبه، وراح أيضاً في خياله إلى إحياء المدينة الفاضلة التي لا بد أنه لم يسمع عنها بل عرفها في خياله. وكل ذلك خلال دوران عجلة الماء وري الحقول التي تشرب آخر قطرة ماء مع رحيل النهار وغياب أطلال مدينة “يول” خلف الحقول، وانتهاء حلم جوبا الطفل الذي يحلم في اليقظة ويستفيق ليكون هو جوبا راعي البقر في واقعه، لكنه في خياله هو جوبا ملك يول خلف الحقول.
يعود الكاتب في حكاية “هازاران” إلى التركيز على قسوة الحياة والبشر من خلال “مارتان” بطل القصة الذي جاء إلى محيط “سد الفرنسيين” وعاش قرب المستنقعات في مكان قذر لا يعيش فيه إلا الفقراء الذين لا يملكون مكاناً يؤويهم. ويستعرض الكاتب علاقة مارتان مع جيرانه كيف أنه منعزل عنهم لا يكلّم سوى الأطفال، ويرفض لمس النقود مقابل عمله إنما يتقاضى طعاماً بدلاً عنها. ويحاول مارتان مساعدة الأطفال ومنع اليأس من الدخول إلى قلوبهم إلا أنه يفشل ويصاب هو باليأس.
هنا يحاول الكاتب أن يؤكد أكثر على صعوبة مقاومة قساوة الحياة وظلمها، فحتى الأكواخ القذرة التي ارتضاها الفقراء للعيش فيها باتت ممنوعة وقررت الحكومة إزالتها وطرد الناس من تلك المنطقة ليذهبوا إلى المجهول.
معظم حكايات الكاتب تتمحور حول البحث عن النور المتمثل بالحرية، نجد الطفلة “بيتيت كروا” فقدت الأمان والسكينة عندما صدمتها حقيقة العالم حولها بعدما كانت تتخيل كل شيء كما تحب، وبنت العالم حولها على قياس طموحاتها وأمانيها.
وينتقل الكاتب من قصة “بيتيت كروا” في حكاية “شعب السماء” إلى قصة الفتى “غاسبار” في حكاية “الرعاة”، ليحكي كيف ساق القدر “غاسبار” الفتى ابن المدينة، الذي تاه في البرية والتقى أربعة أطفال صغار يعيشون مع الحيوانات البرية لا يعرفون لغة “غاسبار” ولا يعرف لغتهم، وأمضى معهم أياماً كثيرة لم يتمكن من إحصائها، تعلم خلالها أسرار الطبيعة والحيوانات وكل شيء فطري لا يمكنه أن يتعلمه في المدرسة، ولم تستطع المدينة تعريفه عليه.
هنا كانت لغة اللاوضوح أوضح وأنقى من كل شيء لدى كل من “بيتيت كروا” الطفلة العمياء و”غاسبار” الذي كالأبكم مع من لا يفهم لغتهم ولا يستطيع تعلّمها. ولكن كلاً منهما استطاع اكتساب معرفة مختلفة عن كل المعارف التي يمكن أن يتعلّمها أن إنسان طبيعي يعيش تحت سلطة الواقع الذي فرضته الحياة الحضارية في شوارع المدن.
يبحث الكاتب في حكاياته عن النور الحقيقي الذي يتمثل بالصدق والنقاء، لذا كانت شخصياته أطفالاً منهم من يعيش في البراري، ومنهم من يهجر المدن ليلتجئ إليها، إلى البحر والطبيعة والنقاء.
الميادين نت