ميخائيل ليرمنتوف يستشرف المستقبل في ‘بطل من هذا الزمان’
رغم موت ميخائيل ليرمنتوف المبكر، في عمر الـ 27، إلا أنه تمكن من نقش اسمه بما ألفه من أعمال أدبية وما كان له من مواقف تقدمية على لوحة كبار الأدباء الروس. فقد عُرف ليرمنتوف كشاعر أكثر من أن يكون روائياً. غير أن مُؤَلفه الروائي “بطل من هذا الزمان” الصادر من المركز الثقافي العربي، أصبح من روائع الأعمال الكلاسيكية، كما يضربُ ببطله بتشورين مثالاً لمرحلة انتقالية حيثُ كانت الأفكار فيها غائمةً وينتظرُ روسيا مستقبل لم تتضح ملامحه، إذ نضج الإدراكُ بضرورة الإنسلاخ من الأفكار والتقاليد الرثةَ لكن لما يتبلورْ وعي بعد بما تحمله الأيام من الأطروحات والرؤى الجديدة.
وهذا القلق بادِ في سلوكيات الشخصية الأساسية. يظهر بتشورين في صورة شخص مُتذبذب تقنعُ بعضُ تصرفاته المتلقي بأنَّه يُمثل نموذجَ إنسان عبثي وما يقوله في مونولوغاته صدى لأفكار شوبنهاور. كما توجد في أعطاف الرواية تلميحات إلى ما مرت به روسيا من الصراع بين التقاليد الأوروبية الوافدة والقيم المحلية. إذ يُحملُ مكسيم مكسيمتش الطبقة المتأثرة بأوروبا مسؤولية انتشار ظواهر غريبة في المُجتمع الروسي.
مع أنَّ “بطل من هذا الزمان” يتيمة ليرمنتوف الروائية، غير أنَّ الكاتب وفق في مزج بين السرد الكلاسيكي المتفرع من أسلوب الحكايا الشعبية وتقنيات كتابة الرواية الحديثة في صياغة عمله. إذ يظلُ الراوي معتمداً على ضمير المتكلم في كل أجزاء الرواية، تطالعك في مستهل الرواية قصة جندي يعملُ في القوقاز وهو يرافق في طريقه إلى المكان الذي أحيل إليه مع مكسيم مكسيمتش فالأخير رجل كهل له خبرة بطبائع أهالي القفقاس فيؤنس الشابُ بكلامه وما يرويه حول تجاربه، وبذلك ينطلقُ السردُ متخللا في نسيجه الأسلوب الحواري الذي يزيدُه تشويقاً وسلاسةً. كما يوزع ليرمنتوف بإتقان مقاطع وصفية رائعة في فضاء الرواية مما يفعِل الحاسة البصرية لدى المتلقي،ويطوف به داخل بيئات جِغرافية متعددة.
الصفقة المشؤومة
كلما سنحت الفرصة لمكسيم مكسيمتش يبدأُ بسرد قصصه لصديقه في الطريق إلى أن يَذكُرَ بتشورين الذي كان ضابطاً تحت إمرته، ومن ثُمَّ يواصل الحديثَ عن وقوع بتشورين في حُب ابنة أحد الأُمراء، فالأخيرة لها أخ يريدُ أن يحصل على حصان كازبتش وهو شاب يقضي سحابة نهاره في الجبال والوديان ويزودُ الجنود بالمؤون وبعض الأغراض، فيبدي عزمت إستعداده لمُقاضاة أخته بالحصان غير أنَّ كازبتش يرفضُ الصفقة.
لا ينتهي الأمرُ عند هذا الحد بل ينصبُ بتشورين شركاً لصحاب الحصان يتسنى له اختطاف بيلا بالتواطؤ مع أخيها، يتحقق لهم ما يريدون في غياب الأب، يمتطي عزمت صهوة حصانه منطلقاً في السهوب، ويظفرُ الضابط بيلا الفاتنة، لكن ابنة الأمير تضربُ عن أكل الطعام ولا تنبسُ ببنت الشفة إلى أن يتعلم بتشورين لغتها ويغدق عليها بالهدايا ويُعبر عن افتتانه بها وهي من جانبها آنست بالأجواء واعترفت بما تكنه من الإعجاب والحب الشديدين لبتشورين منذ أن رأته للمرة الأولى.
يقتلُ صاحب الحصان الأمير ظناً منه بأن الأخير شجع ابنه عزمت على سرقة حصانه كما يستغلُ لهو الضابط بالصيد ويخطفُ بيلا لكن في مناوشات بين حُراس القلعة وكازبتش تصاب بيلا بجرح وعلى أثره تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلى هنا ينتهي فصلٌ من حياة بتشورين التي يتكفلُ أحد أصدقائه بروايته لسارد الرواية إذ أن الأخير يظهر في موقع المروي له بالإضافة إلى وظيفته كراو يُصاحبُ تعاقب الأحداث.
يوميات الضابط
يتركُ مكسيم مكسيمتش مجموعة من الأوراق الي سجل فيها بتشورين يومياته ومشاهداته لدى الراوي وهو بدوره يحتفظ به إلى أن يعلمَ بموت بتشورين في بلاد فارس من دون الإشارة إلى الظروف التي مات فيها، ومن ثم يقدم الأسباب التي تبرر له نشر اليوميات من هنا يغيب صوت الراوي بعدما يتدخلُ منبهاً المتلقي عن قفزه على سلسلة من الوقائع، وتنبسطُ أوراق بتشورين حيثُ يتموقع القارىء والراوي في مكان واحد كلاهما يتابعان لما كتبه بتشورين ويكون البطلُ مُتكلماً مباشرة من دون الوسائط إذ تجدُ تشورين في منطقة تامان ويتعرفُ على حياة ثلة من المُهربين كما يطاردُ فتاة قوزاقية ويُصاحبها في رحلة بحرية مغامراً بحياته غير ان بتشورين قد عجز في ترويض القوزاقية إلى أن يهددها بكشف ماتقوم به من مساعدة المهربين لذلك تهرب ما يسميها بتشورين بالماكرة مع حبيبها ويتألم لتعكير صفو هدوء حياة هؤلاء البسطاء ويؤنب نفسه على تصرفه القاسي مع القوزاقية.
تناقضات الرجل
لا تنجلي الضبابية عن شخصية بتشورين إلا في الفصل الثاني المعنون “بماري”، فهي فتاة في ريعان شبابها وصلت إلى مدينة بياتيغورسك مع أمها ليغوفسكايا في رحلة الإستجمام، إذ يلتقي بتشورين من جديد بصديقه الولهان بالأميرة غروشنيتسكي في هذه المدينة، وما يعينُ المتلقي على فهم طبائع شخصية بتشورين هو وجود نقيضه غروشنيتسكي، فالأخيرُ يبدو في صورة الأبله يفهمُ الأمور بمظاهرها الخارجية. بالمُقابل يفرضُ بتشورين حضوره أينما حلَّ مع أنه كان شريراً نصاباً لكن مثلما تقول إحدى عشيقاته فيرا يجعلُ الشرَّ جذاباً.
هكذا تجتمع في مسرح الرواية صور متناقضة، فيغررُ بتشورين بابنة الأميرة ويوهمها بالحب والإخلاص ومن ثُمَّ يتخلى عنها في وقت يتفانى صديقه الغريم في حب الأميرة من دون أن تعطيه أي اهتمام. لا ينتهي الأمير عند هذا المستوى بل يشتدُ الصراع بين صديقين بعدما يُذاع الخبرُ بانَّ بيتشورين دخلَ بيت الأميرة وهي لم تكُن موجودة. هنا تتأزم العلاقة بين غريمين إلى أن يطالب بتشورين، غروشنيتسكي، بسحب الافتراء أو إقامة المبارزة بينهما… تتنازع الاثنان مشاعر مختلفة، غير أن الصراع ينتهي بمقتل غروشنيتسكي. يعاقب بتشورين بعد معرفة السلطات بالمبارزة بنقله إلى منطقة أخرى. ولا يتوقف عن مراهناته، يقامر بما يملكه من الأموال مع الملازم فولتش فالأخيرُ يرهن روحه يضع المسدس على رأسه ضاغطاً على زناده غير أنَّ الرصاصة لا تخرجُ وتأتي هذه المراهنة عقب جدال ساخن بين الرفقاء حول موضوع القدر هل الإنسان مُخيرُ أو ميسرُ؟.
وما هو عُنصر المفاجأة بالنسبة للقارئ هو تحقيق نبوءة بتشورين عن الملازم فولتش فقد رأى على محيا هذا المتهور أمارات الموت وصرحه بذلك غير أن تهوره لا يودي بحياته بل شخص سكران يمزقهُ بسيفه. فبتشورين هو مَنْ يتطوع لأخذ القاتل مع ما كان في الأمر من المخاطر. يرى بعضُ النقاد بأنَّ شخصية بتشورين بقلقه وتوتره وعبثيته ليست إلا صورة لجيل متطلع لتحرر من هموم مرحلة اتسمت بالاضطراب والضبابية. ما يجعل المتلقي مندمجاً في فضاء هذا العمل هو تداخل ثيمات رومانسية وفروسية وفلسفية.