مُسلمو الأندلس اكتشفوا أميركا قبل كولومبوس
منذ العقد الأخير من القرن الخامس عشر، كانت الفكرة السائدة في العالَم كلّه، أنّ كولومبوس وحده هو بطل اكتشاف أميركا، وذلك انطلاقاً من معلوماتٍ تاريخيّة مغلوطة ومُجتزأة. وقد كرّس هذا الفعل، الذي غيّرّ حدود الخريطة العالميّة بشكلٍ جذريّ كما غيَّر وجوه الحياة كلّها، معرفةً لا جدال فيها، سوَّق لها الاستعمارُ الغربيّ بقوّة؛ إذ تمحورت الدراسات الغربيّة حول هذا الموضوع التاريخيّ الجغرافيّ العالَميّ الأهميّة، حول الرغبة الأوروبيّة بالوصول إلى الهند عن طريقٍ بحريّ جديد، تفادياً لهجمات القراصنة في المتوسّط.
لأنّ التاريخ يكتبه المُنتصرون، لم يَرِد في كلّ الدراسات الغربيّة، التي تلقّاها العالَم بأسره، بما في ذلك العالَم العربي والإسلامي، أيُّ ذكرٍ للموريسكيّين في حدث ِاكتشاف القارّة، أو للتواجد الإسلامي الأندلسي والأفريقي فيها قبل وصول كولومبوس إليها وبعده. كما لم يُذكَر أيّ شيء عن اطّلاع البحّار الجَنويّ على الإرث العِلمي والجغرافي للمسلمين الأندلسيّين، المُترجَم عن العربيّة منذ القرن الثاني عشر، وذلك حين كان في البرتغال ما بين عامَي 1481 و1482م.
الحقيقة أنّ الدَّور المهمّ للموريسكيّين في إعادة اكتشاف العالَم الجديد ليس إلّا امتداداً لتاريخٍ إسلامي أندلسي – أفريقي، كان جزءاً من نسيجِ كَينونة القارّة منذ القرن العاشر أو ربّما قبل ذلك. وبحسب ما استنتَج مؤرِّخُ الفنّ الألماني ألكسندر فون ووتينو، لدى دراسته منحوتاتٍ تجسّد وجوهاً لأفرادٍ وجماعات من الموريّين – أي المُسلمين الأندلسيّين والمَغاربة – تواجدوا في أميركا بين القرنَين العاشر والسادس عشر، فإنّ المُسلمين كانوا سادة البحار في القرون الوسطى. وكان الباحث إيلين وودورد قد أشار إلى ما قاله كولومبوس في أنّ العربيّة هي أمّ اللّغات، وذلك في بحثٍ عنوانه لافتٌ وذو مدلول “هل كانت تحيّة السلام عليكم أوّل ما قاله كولومبوس” في القارّة؟
الحقيقة أيضاً هي أنّ الأندلسيّين، رحّالةً وتجّاراً وجماعاتٍ مُهاجِرة، وصلوا إلى جنوب القارّة منذ القرن التاسع الميلادي: يذكر المسعودي في “مروج الذهب” أنّ القرطبي الخشخاش بن سعيد بن أسود، هو أوّل من غامَر ورفاقه (في العام 889 م)، وقام بالرحلة الاستكشافيّة الأولى في بحر الظلمات، مُنطلِقاً من مرفأ ديلبا (صار اسمه بالوس) ووصلوا إلى أرضٍ مجهولة، عادوا منها بكنوزٍ كثيرة، وهي تظهر في خريطته العالميّة. ويذكر ابن القوطيّة أنّ الغرناطيّ ابن فرّوخ أبحر من مرفأ قادس (في شباط/ فبراير من العام999 م)، وعبر بحر الظلمات، وعاد بعد ثلاثة أشهر إلى الأندلس ليخبر أنّه رأى جزيرتَين سمّاهما كابراريا وبلوتانيا.
تستوقفنا هذه التفاصيل الكاشفة لعنوانٍ كبير، يثبت اطّلاع كولومبوس على الإرث الجغرافي الأندلسي قبل إبحاره إلى العالَم الجديد. فليست مُصادفة أن يكون البحّار الجنوي قد أبحر مرّات أربع في رحلات “الاكتشاف” من المرافئ ذاتها التي انطلق منها الرحّالة الأندلسيّون ليرتادوا بحر الظلمات قبله بخمسة قرون: مرفأ بالوس، ومرفأ قادس، منطلق الرحلات الثلاث الأخرى ما بين العامَين 1493 و1502م.
ولم تقتصر العلاقة بين الأندلس والأرض المجهولة على هاتَين الرحلتَين؛ فالوثائق التي هي أدقّ من كُتب التاريخ، تُثبت أنّه كانت هناك علاقات تجاريّة مهمّة بين ضفّتَي الأطلنطي؛ إذ ارتاد التجّار المسلمون الأندلسيّون، منذ نهاية القرن التاسع، الشواطئَ المعروفة اليوم بالبرازيل وفنزويلا والأنتيل الصغرى، وذلك بحسب ما تذكر لويزا الفاريز دي توليدو، دوقة مدينة سيدونيا، في كِتابها ” أفريقيا أبحرت إلى أميركا” الصادر في العام 2000 في مدريد، والذي أثار جدلاً كبيراً في المجتمع الإسباني. والدوقة تملك أهمّ أرشيفٍ عالَميّ في أوروبا والعالَم، يشمل كلّ وثائق الرحلات الأندلسيّة في ما وراء البحار، وقد ورثته عن أجدادها المُسلمين، وقضت ثلاثين عاماً تدرس محتوياته.
تشير الفاريز إلى وجود بعض أسماء مُدن وعائلات مسلمة أندلسيّة ومراكشيّة في أميركا اللاتينيّة، منها على سبيل المثال اسم جزيرة مايوركا، وكاديكا أي قادِس، وموروكو أي مراكش، وفاس. ومن أسماء العائلات: توريس، ميدينا، البرنوس، فارغاس. وقد اعترفت منظّمة اليونيسكو بالتأثير الحضاري الإسلامي قبل كولومبوس في القارّة انطلاقاً من هذه الأسماء.
وفضلاً عمّا أوردته الدوقة، هناك معطيات تاريخيّة – جغرافيّة عِلميّة تُثبت أسبقيّة وصول المُسلمين إلى القارّة، أهمّها ما جاء في مذكّرات كولومبوس ذاته، وما كتبه باحثون غربيّون موضوعيّون في هذا المجال: يذكر الجنوي أنّه رأى مسجداً جميلاً في ذروة جبل، في مرتفع جيبارا، قرب الشاطئ الشمالي الشرقي الكوبي، وأنّ النساء في شاطئ ترينيداد يُزيّن رؤوسهنّ بالمئزر، وهو مصنوع من قماش القمصان الذي كان يستعمله موريّو الأندلس وأفريقيا.
ويشير ميرا موس في مقالة وقّعها في العام 1946 إلى أنّ كولومبوس التقى في رحلته الثانية جماعةً من عِرقٍ أبيض، تُعرف بالكاريبيّين، أفرادها مسلمو العادات، ويعملون بالزراعة وصيد الأسماك، ويعيشون مُسالمين يمقتون الظُّلم ويتحدّثون العربيّة، وكان انطباعه لدى رؤيتهم أنّهم محمّديون.
أمّا أوّل مَن أرّخ لتواجُد المُسلمين الأفارقة في القارّة، فهو مانويل أوروزكو(1816-1881) في كِتابٍ من أربعة أجزاء عنوانه “التاريخ القديم لغزو مكسيكو” ويثبت فيه أنّ أميركا الوسطى والبرازيل بخاصّة، كانتا مُستعمرتَين لشعوبٍ زنجيّة قادِمة من أفريقيا، وانتشرت في جنوب القارّة وشمالها. وتلك الشعوب المذكورة، هي من رعايا سلاطين مالي المانديغا، الذين أشار إلى استكشافاتهم الجغرافيّة المؤرِّخ الدمشقي شهاب الدّين العمري (1301- 1349) في “مَسالِك الأبصار”، مُورداً أنّ السلطان أبو بكاري الأوّل (1285-1312) جازَف شخصيّاً في عمليّةٍ استكشافيّة ثانية، وعَبَر بحر الظلمات بألفَي سفينة، وبعد أن غرقت حملة أولى، لكنّه لم يعُد إلى وطنه.
في القارّة والعالَم الأوروبي، تكشّفت تلك المُعطيات وعُرفت في نطاقٍ ضّيق، اتّسع تدريجاً منذ مطلع القرن العشرين وحتّى سبعينيّاته، من خلال أبحاث الفرنسيَّين جيل كوفيه وفيكتور بول إميل، والأميركيّين باري فيل، من جامعة هارفرد، وثيروس غاردن، وليو وينر، وكذلك إيفان ستّيما، والكولومبي ماوريثو أوبريغون.
وقد ازداد الاهتمام بأسبقيّة وصول المُسلمين الأندلسيّين والأفارقة قبل كولومبوس إلى القارّة في ثمانينيّات القرن الماضي، في إسبانيا وأميركا اللّاتينيّة بخاصّة، في زمن الملكيّة الدستوريّة، وقد مُنحت الأندلس حُكماً ذاتيّاً مع ارتباطها بالمحكمة المركزيّة في مدريد، فاسترجعت تاريخها الإسلامي. تقاطَع الحدث مع ثورات التحرّر في أميركا اللّاتينيّة، التي أخذت تبحث عن جذورها التاريخيّة، شكَّلت الحضارة الإسلاميّة جزءاً مهمّاً من نسيجها، فصدَرت مئات الدراسات حول تواجُد المُسلمين الأندلسيّين والأفارقة في القارّة.
يدهش فعلاً الكمّ الكبير الذي ما زال يُنشر عن هذا الموضوع، والذي تُسهِم المرأة في توقيعه. لكنّ الغريب أنّ تلك الأبحاث كلّها التي تتناول حقبة مهمّة من تاريخنا، لم تجد أيّ صدىً في عالَمنا العربي والإسلامي، ولم تثر فيه فضولاً ثقافيّاً، كما لم تكُن حافزاً لإعادة طبع إرثنا التاريخي والجغرافي الأندلسي وكأنّ الأمر لا يعنينا.
وختاماً: قد يضع الكثيرون هذا الموضوع في خانة البكاء على الأطلال، لكنّ الأمر ليس كذلك؛ فالشعوب التي لا تعرف شيئاً عن عظمة تاريخها، ولا تستمدّ منها قوّة، وبخاصّة في زمن الضعف والتقهقر، هي شعوب لا تعرف نفسها: نحن لم نكُن دائماً تابعين، وإنّما كنّا روّاداً في مجالات العلوم والآداب والفنون كلّها.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)