نار علي المياه.. الصين وأمريكا ومستقبل المحيط الهادي
عرض: د. مروة نظير – مدرس العلوم السياسية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
Robert Haddick,Fire on the water:China, America, and the Future of the Pacific,(USA: Naval Institute Press, 2014)
تعد منطقة آسيا والمحيط الهادي من المناطق ذات الأهمية الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، حتي إن العديد من المحللين يرونها لا تقل أهمية عن منطقة الأمريكتين الوسطي والجنوبية، التي تعدّها واشنطن فناءها الخلفي الذي لا تقبل بتدخل أي لاعب معاد لها فيه. وتزداد أهمية هذه المنطقة في ضوء تنامي القوة العسكرية والسياسية الصينية، والتنبؤات بأن تصبح إحدي القوي العظمي في المستقبل القريب.
وفي إطار اهتمام المؤسسات البحثية، ومراكز الفكر والرأي الأمريكية بدراسة التفاعلات السياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية التي من الممكن أن تترك آثارها علي توازنات القوي بين مختلف الفاعلين في هذه المنطقة، نشر معهد البحرية للصحافة الأمريكي العام الماضي (2014) كتابا يناقش كيف يعد الصعود الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادي مصدر خطر للأمن القومي الأمريكي ولحلفاء الولايات المتحدة في تلك المنطقة.
تنبع أهمية هذا الكتاب من أن مؤلفه روبرت هاديك يجمع بين الخبرتين العملية والبحثية، فقد خدم هاديك كضابط سابق في البحرية الأمريكية في شرق آسيا وإفريقيا، كما أنه محلل عسكري له خبرة تمتد لثلاثة عقود في مجال الأبحاث المتعلقة بالاتجاهات الأمنية في آسيا، وعمل كخبير استشاري في وزارة الخارجية، والقيادة المركزية الأمريكية.
ملامح الدور الصيني في آسيا:
ينطلق المؤلف من اقتناع بأن تحديث القدرات العسكرية الصينية يشكل خطرا داهما علي المصالح القومية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وأن تلك الخطورة لا يدركها الكثير من المواطنين، بل والخبراء وصناع القرار داخل الإدارات الأمريكية. ويري أنه في غضون عقد، ستحل الصين محل الولايات المتحدة كقوة عسكرية في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية للولايات المتحدة. ويفسر ذلك بأن الاستراتيجية العسكرية الصينية ترتكز في الوقت الراهن علي التوسع الجوي والبري اعتمادا علي القوة الصاروخية، واستغلال الثغرات الأمنية للوجود العسكري الأمريكي في آسيا والمحيط الهادي. ويضيف أن الصين تعتزم دفع البحرية الأمريكية للتراجع والعودة إلي حدود ميناء بيرل هاربر، أي لحدودها قبيل حسم الحرب العالمية الثانية. وامتدادا لنمط التفكير ذاته، يؤكد الكتاب أن الأمر ربما لا يحتاج إلي عشر سنوات لتحل الصين محل الولايات المتحدة، وذلك إذا ما واصلت الإدارة الأمريكية تقليص وجودها العسكري في منطقة آسيا والمحيط الهادي، لاسيما مع استمرار الاضطرابات في محيط روسيا والعالم الإسلامي علي نحو تولدت معه الحاجة للوجود البحري الأمريكي خارج حوض المحيط الهادي.
أما الفرضية الثانية التي ينطلق منها المؤلف، فهي تشابه ظروف منطقة شرق وجنوب شرق آسيا في الوقت الراهن، وظروف أوروبا في عام 1914، والتي تمخضت عنها الحرب العالمية الأولي، لاسيما في ظل التوترات الموجودة بين الصين من جانب، وعدد من الفاعلين الإقليميين في المنطقة، خاصة الفلبين، وماليزيا، وإندونيسيا، اليابان من جانب آخر، والتي تربطها علاقات استراتيجية تختلف في مداها مع الولايات المتحدة الأمريكية. واستنادا إلي ذلك، يري هاديك أن الوجود العسكري الأمريكي في شرق آسيا أمر ضروري لضمان استقرار المنطقة. وأكد أن الحضور الأمريكي أقل نكلفة وخطورة من تشجيع الدول المجاورة للصين علي مواجهة القوة الصينية الصاعدة بأنفسها، وأن الغياب الأمريكي من معادلة المنطقة من المرجح أن يؤدي إلي عدم استقرار ونشوب سباق التسلح فيها، وهو ما يهدد في التحليل الأخير المصالح القومية الأمريكية بشكل مباشر، لاسيما مع تهديد خطوط التجارة والملاحة العالميتين.
دعائم الاستراتيجية المقترحة:
وعن الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع التهديدات العسكرية الصينية، يري هاديك أن رد الفعل الأمريكي علي مواجهة التحديث العسكري السريع للصين اتسم بالبطء الشديد وعدم الفعالية. ويرجع المؤلف ذلك إلي العراقيل المؤسسية التي تعانيها الولايات المتحدة، لاسيما في الجهات المعنية باتخاذ القرارات ذات الصلة، أي وزارتي الخارجية والدفاع، والبيت الأبيض. ومن ثم، يري أن الولايات المتحدة بحاجة إلي صياغة استراتيجية جديدة أكثر قدرة علي المنافسة، ومواجهة التحديات عبر التأثير في الخيارات المتاحة أمام الصين، والحد منها لتجنب حدوث أزمة في المستقبل.
تقوم الاستراتيجية التي يقترحها المؤلف في هذا الصدد علي دعامتين. الأولي اقتصادية تعاونية، حيث يدعو لردع ما يسميه العدوان الصيني ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وتوفير حوافز للصين للتعاون مع الولايات المتحدة في مجال التجارة العالمية، وهو ما سيقلل التكاليف المحتمل أن تتحملها واشنطن، في حال اختارت بكين التصرف بعدوانية فيما يخص مطالبها الإقليمية ضد تايوان، وفيتنام، والفلبين، واليابان، وغيرها من الدول المجاورة لها. أما الثانية، فهي عسكرية رادعة، إذ يدعو هاديك إلي ضرورة أن تقوم الاستراتيجية الأمريكية المقترحة علي تعزيز قدرات الردع العسكري للولايات المتحدة في المنطقة، وذلك لزيادة مصداقية تحالفاتها مع الفاعلين الإقليميين.
رؤية نقدية:
يتميز الكتاب بسهولة لغته وبساطتها، والتي تمكن غير المتخصص في الشئون الاستراتيجية من متابعة ما يحويه من أفكار، مع الحفاظ علي التخصص، والخوض في التفاصيل الاستراتيجية الاحترافية. فيتناول هاديك النظريات الرئيسية التي أثرت بشكل فعال في تحليل الخطاب المتعلق بالاستراتيجيين الأمريكية والصينية. كما يشرح وجهات النظر المختلفة بشأن صعود الصين، منتقدا خيارات الولايات المتحدة التي يصفها بالإفراط في التفاؤل بخصوص قدرتها علي احتواء الصين الصاعدة، مؤكدا أن محاولات استيعاب الصين يترتب عليها ضرر كبير.
بيد أنه علي الجانب الآخر، يري البعض أن الكتاب ربما يشمل قدرا من المبالغة في تقديره للقوة الصينية، وربما يكون الغرض من ذلك هو تخويف صناع القرار الأمريكي، ومن ثم تشجيعهم علي زيادة قدراتهم العسكرية في هذه المنطقة الاستراتيجية، وهو ما يتضح من المقترحات التي يقدمها المؤلف في هذا الكتاب من قبيل تطوير الصواريخ والقاذفات بعيدة المدي، مع ضرورة تطوير أجهزة الاستطلاع، وتبادل القدرات العسكرية مع حلفاء واشنطن في المنطقة لمقاومة تهديد الصين. وهي مقترحات يراها كثيرون صعبة للغاية.
ومن المثالب الأخري التي تعتري مقترحات هاديك، هي التكلفة العالية للحلول المطروحة، والتي تتطلب من الولايات المتحدة التركيز علي السفن والطائرات متعددة المهام ذات القوة التكتيكية بعيدة المدي، وهي باهظة الثمن. وهو ما يتطلب إلغاء أو إعادة التفاوض علي التفاهمات بين واشنطن وموسكو بخصوص المنطقة منذ ما يقرب من عشرين عاما، فضلا عما تصطدم به تلك التوصيات من العراقيل المؤسسية والبيروقراطية داخل وزارة الدفاع الأمريكية، لاسيما وأنه يدعو إلي زيادة الاستثمار في الأسلحة الهجومية بعيدة المدي، وتقليل الاعتماد علي المنصات الكبيرة، مثل حاملات الطائرات والمقاتلين، والتي تعد من دعائم التجهيزات الدفاعية والعقيدة العسكرية الأمريكية.
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)