نثر الرماد| إكرام العطاري و”تجليات المفارقة في قصيدة الومضة العربية”
نثر الرماد| إكرام العطاري و”تجليات المفارقة في قصيدة الومضة العربية” ..علَّنا في ميدان النقد الأدبي أمام عجلة لا تهدأ من التجدد والاستمرار والابتكار، فكلما رست توجهات النقاد على منهج نرى فكرا آخر وفلسفة أخرى تأتي لتحوي بقعة الضوء، وربما يكون – في مخيال البعض – مقياس نجاعة الناقد الرصين هو مواكبته لهذا التطور بدراية كاملة قائمة على أننا أبناء علوم إنسانية – بعيدة عن الصحيح المطلق – فالمواكبة هي الأساس، ونرى هذا التوجه – على سبيل الذكر لا الحصر – في خطاب الأنا الخاص بالدكتور عبدالفتاح كيليطو في مقدمة كتابه الموسوم بـ”الأدب والغرابة: دراسة بنيوية في الأدب العربي”، وعلى الجانب الآخر نجد من يؤمنون بمناهجهم وأفكارها فنراهم ملتصقين بمدرسة فكرية أو منهج نقدي معين، يؤمنون به ويتخذونه أداة لإجرائهم، وأصحاب هذا الفكر كُثر ولهم أعمالهم ذات القيمة العالية.
أما عن تموضع المقدمة السالفة فهو ليس مقياسا للمفاضلة بين اتجاهين بل هو من باب الذكر تمهيدا لاتجاه ثالث ظهر وانحاز له كتّابنا، ألا وهو التجديد، بمعنى إيجاد ثيمة للجمع بين حقل معرفي وبحثي في مجال السبر النصي مع نوع أدبي ينماز بالحداثة في الوجود، خالقا بذلك هذا الاتجاه مجالا هجينا للدراسة ينماز بالجِدَّة والتجديد، ومن هنا انطلق كتابنا الموسوم بـ”تجليات المفارقة في قصيدة الومضة العربية” بالجمع بين شعر الومضة العربي، وهو حقل أدبي جديد إلى حد ما من حيث الوجود والانتشار، والمفارقة(Paradox) وهي الأداة التي كانت مشتعلة بقوة أواخر القرن الماضي حتى بداية هذا القرن، وهي الأداة التي قلت دراساتها عن ذلك الوقت فأتى الجمع لخلق هوية نقدية هجينة(Hybrid identity) تنثر الرماد عن وهج المفارقة في هذا التموضع البحثي.
والكتاب من منشورات الدار المنهجية للنشر والتوزيع – عمان، في نحو مئتين وخمس عشرة صفحة من القطع المتوسط، كان في الأصل منجزا لنيل درجة الماجستير بإشراف الأستاذ الدكتور ناصر شبانه، وهو المتخصص بدوره في المفارقة من خلال أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنية والموسومة بـ”المفارقة في الشعر العربي الحديث: أمل دنقل، سعدي يوسف محمود درويش نموذجا” والمنشور لاحقا ككتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، أما هذا الاستهلال فهو الذي يرنو إلى ذكر التفرد والشخصية المستقلة للباحثة، وهذه إحدى النقاط المضيئة في هذا المنجز؛ فنرى منجز مشرفها – وهو منجز ريادي في مجال المفارقة – ذا حضور بارز في هذا الكتاب إلا أنه لا يطغى بفكره على آراء دارسي المفارقة الآخرين؛ إذ قام الكتاب على تسعين مصدرا ومرجعا بين دواوين شعرية وأعمال نقدية مختلفة في مجالات المفارقة (Paradox) والشعرية (Poetics) والتناص (Intertextuality) وغيرها من المجالات الداعمة لرؤية المفارقة، شكلت هذه المراجع نظرة مثقفة لقارئ واع اتجه إلى النماذج الشعرية – ذات الطبيعة الوامضة المتمثلة في تضمين أكبر قدر ممكن من الدلالة في أصغر بقعة مادية ممكنة – بحمولة ثقافية متنوع ومتكاملة قادرة على استكناه هذه النصوص ذات المخاتلة والتكثيف العالي.
وقد وقع الكتاب في مقدمة وأربعة فصول تليها خاتمة ونتائج شكلت بنية كلية لدراسة المفارقة في قصيدة الومضة العربية، فكانت المقدمة مهاد الحديث عن ثيمة الدمج ونجاعتها بين المفارقة وقصيدة الومضة العربية، أما فصول الكتاب وبنيانه الأساس فهو الواقع على تسلسل قويم هيأ ثيمة الدمج بتدرج منطلق من التنظير في الفصلين الأول والثاني إلى أن تصل الباحثة بقلمها الناقد إلى الفصلين الثالث والرابع وأساس رؤية هذا الكتاب/وهو الإجراء.
فانطلق الفصل الأول للحديث عن المفارقة تحت عنوان “المفارقة تقنية شعرية” ولعل الخروج عن نص الكتاب إلى رؤية خارجية لهذا الفصل لهو الأجود في حديثنا هنا، إذ نرى الباحثة قد نظَّرت وعرَّفت في مبحثين: المفارقة (تعريفا وعناصر) في المبحث الأول وأنواعا في مبحث الفصل الآخر، والمائز هنا ربط المفارقة -التي ترتبط بالمعنى بشكل كبير وذلك من خلال تعريفاتها العديدة وعلى رأسها تعريفها الأبسط (قول الشيء وقصد ضده)- بالجماليات النصية المنبثقة من رؤية الشعرية، وهنا تكامل قرائي يأخذ بطرفي النص (اللفظ والمعنى) نحو تحليل متكامل، ولعل هذه الرؤية هي المسببة لتضمين مفاتيح نقدية مصاحبة ومساندة – التناص والشعرية وغيرها… – لتحقيق التكامل المفارق بين ثنائية الشكل والمضمون، كما والمسببة لاختيار المنهج الأسلوبي -برؤيته المتجهة نحو النص لغة ودلالة – منهجا لهذا الكتاب، وهو اختيار ذكي يعبّر عن قارئ واعٍ عالم بكنه المناهج النقدية ويمتلك قدرة الاختيار بين مفاتيح المناهج – بعقل منفتح – على أساس ما يتطلّبه النص. وهذا الوعي متجلّ في جمع المادة التنظيرية والتعليق عليها بذكاء رابط لهذه الأجزاء مع بنية الكتاب ككل.
أما الفصل الثاني وهو الموسوم بـ”قصيدة الومضة: المفهوم وتاريخ النشأة، والسمات”، يقع هذا الفصل في مبحثين يكونان قوامه تحت هذا المسمى بشكل سليم؛ إلا أنه عند النظر إلى السلك الجامع بين رؤية الكتاب وفصوله أرى تموضع المبحث الأول – الموسوم بـ “نشأتها وتطورها” كتمهيد أفضل منه على هيئة مبحث في الفصل الثاني، حتى وإن كان المبحث الثاني مختصا بالحديث عن شعر الومضة، فنحن في بنية جامعة لسلك تدرّجي بين هذه الفصول لتحقيق رؤية المفارقة في شعر الومضة، والأصول والإرهاصات التاريخية – من قصيدة البيت الواحد والتوقيعات انتقالا للهايكو(Haiku) والأبيجراما(Epigramma)- قد تكون – من منظوري الخاص – بعيدة عن سلك بنية ثيمة الدمج بين المفارقة والومضة التي ترنو إلى التجديد في الإجراء، على عكس المبحث الثاني الموسوم بـ”تعريف قصيدة الومضة وسماتها” وهو مبحث تنظيري أتى في مكانه بالشكل الأسلس كتموضع تنظيري تأسيسي لنظرة الدمج لاحقا في هذا الكتاب، فحمل في طياته بعد التعريف أهم سمات قصيدة الومضة المؤثرة بشكل كبير في شعرية هذا النوع وآليات استكناهه، أما عن التتبع التنظيري القويم فقد كان ذا رونق في هذا الفصل بمبحثيه، والاختلاف لا يعدو الحديث عن التموضع المكاني للمبحث الأول.
أما الفصل الثالث فهو الفصل الإجرائي الأول، وفيه جمع بين التنظير والإجراء والفارق بينه وبين الفصل الأخير أن هذا الفصل عماده الشعرية بمفاتيحها المختلفة غير أن الفصل الرابع عماده المفارقة بأنواعها، وهذا العماد مرتبط بالأمثلة والإجراء. وقد وقع الفصل على مهاد نظرية فصَّلت فيه الباحثة الشعرية وعلاقتها بقصائد الومضة فاتحة بذلك المجال لربط المفارقة بهذه الأشكال الشعرية المنبثقة من شعر الومضة في أربع مباحث على النحو الآتي:
- المبحث الأول: المفارقة وشعرية القصر.
- المبحث الثاني: المفارقة وشعرية الصورة.
- المبحث الثالث: المفارقة وإيقاع قصيدة الومضة.
- المبحث الرابع: المفارقة وشعرية التناص في قصيدة الومضة.
وهنا يحسب للباحثة اجتهادها في جمع النماذج الشعرية المختلفة، وتنوع روافدها المنهجية بالإضافة إلى فهمها العميق لفلسفة الإجراء في كل من مفاتيح الشعرية سالفة الذكر عبر عناوين مباحث هذا الفصل، ولعل التعريج على أن المفارقة آلية لا تقوم وحدها عادة؛ بل هي المرتبطة بمصطلحات نقدية وبلاغية أخرى تكون للمفارقة أجزاء عضوية مهمة، فكانت هذه المفاتيح الشعرية مكونات أساسية في المفارقة بنماذجها المختلفة، ولعل الباحث العربي الذي يرنو لإثراء العمل النقدي واجدا هنا ميدان بحث كبيرا في إيجاد اشتراكات المفارقة وعلاقاتها في المفاتيح الشعرية، فكان هذا الفصل ذا تموضع أساسي في الكتاب وزاد عليه إشارة إلى ميدان بحث خارجي يمكن للبحاثين سبره.
أما الفصل الأخير وهو فصل “تجليات المفارقة في قصيدة الومضة” فقد كانت المفارقة عماده، وأنواعها – التي تحدث عنها سابقا الدكتور ناصر شبانة في منجزه سالف الذكر – مباحثه؛ إذ شكلت المباحث الستة في هذا الفصل رصدا لمفارقات شعر الومضة وتصنيفا لها على ستة أنواع رئيسة للمفارقة في هذه المباحث الستة على النحو الآتي:
- المبحث الأول: المفارقة اللفظية.
- المبحث الثاني: المفارقة الرومانسية.
- المبحث الثالث: المفارقة الدرامية.
- المبحث الرابع: المفارقة الحركية.
- المبحث الخامس: المفارقة السقراطية.
- المبحث السادس: مفارقة التنافر.
وهنا مركز ثيمة الدمج الذي تحدثنا عنه سابقا، وللتنظير وجود كريم إلا أن التطبيق هو صاحب بقعة الضوء في هذا الفصل، وقد أجادت الباحثة في التقاط المفارقات بنماذجها المختلفة، وتابعت الإجادة في حقل السبر النصي لهذه المفارقات، من خلال حساسية عالية – ناتجة عن دربة كبيرة – لأنواع المفارقة في هذه النماذج، والتوسع الشديد لمناهل هذه النماذج الشعرية.
ختاما قام هذا الكتاب على رؤية ناجعة بالجمع بين آلية المفارقة – بين الالتقاط والتأويل – وشعر الومضة- بشعريته ومفاتيح هذه الشعرية – لتشكيل اتجاه بحثي حديث يعيد توظيف المفارقة في تموضعات حديثة تعيد للمفارقة أهميتها العظمى في سبر النص الأدبي، وهذه هي الأهمية الأخيرة الناتجة عن هذا الكتاب بإعادة استخدام التراث النقدي في مواضيع حديثة تحدث نجاعة في القراءة وابتكارا في الرؤية، ولعل هذا الكتاب أحد المنجزات القِلَّة التي أخذت آلية المفارقة بشكلها القويم – التقاطا وتأويلا – مضيفا إلى ذلك جمالية الدمج الناثر لرماد القِدَم عن هذا المصطلح الإجرائي الذي يستحق القراءة والسبر.