نجيب محفوظ .. فضاءاتٌ من الحكيِ
يأتي يوم الثلاثين من أغسطس من كل عام ليحمل ذكرى رحيل عميد الرواية العربية العالمي نجيب محفوظ، ليأخذ معه كل أسرار الحارة المصرية القديمة، فضلا عن احتكاره الحصري لحكايا مصر المجتمعية وما تتضمنه من إحداثيات وإشكاليات يمكن أن تفسر تاريخ مصر في خمسين عاما، تأني هذه الذكرى لتفجر في أذهاننا قضية أن شخصيات محفوظ الرواية ليست مجرد أبطال تحكي قصصا من أجل المتعة والإمتاع فحسب، بل هي رموز لواقع مضى، ومستقبل آتٍ.
الرُّوايَةُ استثناءُ ضدّ الرِّقَابَةِ:
تسعى الرواية المصرية منذ أعوام ليست بالبعيدة أن تستحيل استثناءً حتمياً ضد الرقابة، لا بمعناها القانوني أو المؤسسي أو النقدي فحسب، بل رقابة المشهد الذي يفرض تفاصيله ونهاياته بصورة عمدية إجبارية في السرد، وهذا ما يفسر حضورها المستدام في فترات السكون والحركة التي تمر بها الأمم المختلفة، ولعل هذا هو ما دفع معظم النقاد العرب المعاصرين إلى احتكار واستلاب مقولة إن الرواية ديوان العرب، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بأن الرواية أصبحت منذ نهايات القرن الماضي وبدايات هذا القرن حتى وقتنا الراهن سجل الحياة المؤرَّخ للإنسانية وخير توصيف ليوميات غير معتادة، هذا الاقتناص النقدي ظهر وبزغ في ظل غياب واضح وجلي للحضور الشعري وغياب المشروعات الشعرية الجديدة، وانتفاء ظاهرة التفرد الشعري واختفاء قامات شعرية إما بفعل الموت أو التهميش الإعلامي أو الاستبعاد الاجتماعي الذاتي لهؤلاء الشعراء أنفسهم، أو اهتمام بعضهم بالتجارة الثقافية كالمشاركات الثقافية في مؤتمرات ومطبوعات الخليج النفطي التي أصبحوا فيها أشبه بالمرتزقة.
وامتطاءً لهذا الاستلاب النقدي للرواية، فإن محاولة اقتناص رواية معاصرة في المكتبة العربية المعاصرة تجسد هذا التأريخ الإنساني الذي نادى به النقاد تعد أمراً عسيراً؛ لا لعجز الروائيين عن رصد المقامات والأحوال اليومية، بل لتسارعها الزمني وانعدام القدرة على التنبؤ بنتائج المشاهد والمقامات اليومية الراهنة والتي لا تتزامن بحق مع توهج الإبداع، من ناحية أخرى فإن روائيي الحداثة يقيمون عالماً افتراضياً موازياً لعالم الواقع، وربما ينفصلون عنه انفصالاً تاماً من حيث مواد وأدوات التشكيل، ومن حيث الاستهداف.
أكثر الشخصيات التي أثرت في تكوين وحياة الأديب العالمي نجيب محفوظ هو الشيخ مصطفى عبدالرازق صاحب أشهر معركة فقهية وفكرية مع القصر الملكي، وثاني مجدد بعد الإمام المجدد الشيخ محمد عبده، ولقد اكتسب نجيب محفوظ عن الشيخ مصطفى عبدالرازق التسامح ورفض التعصب، وهو ما نلمحه في كافة روايات نجيب محفوظ
وسمة الاستثناء التي تميزت بها الرواية المصرية المعاصرة على وجه الخصوص هي التي جعلتها ـ الرواية ـ تنفرد إبداعياً عن الفنون الإبداعية الأخرى كالشعر والقصة القصيرة على سبيل المثال، وربما سقط فن المسرح أيديولوجياً بحكم ضعف الدافعية الاقتصادية لرواج وتمويل ودعم هذا الفن، فالرواية جنحت بحكم تكوينها الفني والشكلي إلى معالجة قضايا متصلة بالمشهد الراهن مثل الديموقراطية، والظواهر المتصلة بالدين، والصراعات الاجتماعية، وقضايا المجتمع المدني، ومفاهيم الحرية السياسية والاجتماعية، وهي مظاهر من العسرة أن تتم معالجتها ضمن قصيدة تشبه الومضات السريعة وهي المزية التي يمكن توصيف القصيدة المعاصرة بها.
لكن قدرة الرواية المعاصرة على إتاحة مساحات من المحاورة والنقاش لمعالجة مثل هذه القضايا الاجتماعية والسياسية هي التي جعلتها تفرض حضوراً كبيراً ونافذاً على ساحة الإبداع، وعلى مستوى التأثير الجمالي لدى المتلقي ومن ثم التفاعل مع الرواية، بل يمكن القول إن الرواية المصرية المعاصرة تحديداً منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني أتاحت الفرصة للمتلقي في إرضاء عطشه للثرثرة وفضح آليات المجتمع التي تجعل المواطن مجرد رقم أصم لا قيمة له.
وثمة قاعدة نقدية تفيد أن التحول الأساسي في الرواية المصرية المعاصرة يشير عادة إلى ما يسمى بالحساسية اللغوية الجديدة، أو ما يعرف بالحداثة، وهذه الحداثة هي التي قامت بفصل عالم النص الروائي عن مرجعية عالم الواقع الفيزيقي والاجتماعي المحيط، بحيث إننا لا نستطيع أن ندعي بأن الروائي يريد كذا أو يقصد كذا، كما أن النقد المعاصر دائماً ما يؤكد أن رواد الحكي المعاصر بعيدون كمال البعد فيما يسطرونه من كلمات عن صور وتشكيلات الواقع الفعلي.
وإذا كان هذا الانفصال غير المبرر بين العالمين “عالم النص” و”عالم الواقع” كانا يتعانقان منذ المحاولات الأولى لرواية الحداثة، فإن السيد نجم في روايته “أشياء عادية في الميدان” يحاول جاهداً قطع حالة الانفصال تلك، بل وتبدو خطوط الاتصال بين العالمين واضحة لا مجال للشك فيها، حيث إنها رواية تصر على تقديم نفسها كتعبير عن الحراك باتجاه المجتمع.
مَزَارٌ سِيَاحِيُّ اِسمُه نَجِيْب مَحْفُوظ:
دخل الأستاذ الجامعي قاعة المحاضرات منتشيا ومستشعراً بالفخر الشديد وهو يتأبط تحت ذراعه الأيمن رواية “بداية ونهاية” لعميد الرواية العربية الأديب العالمي نجيب محفوظ، وبمجرد جلوسه على مقعده الساكن والساكت كقلبه بدأ يعلن عن أدب نجيب محفوظ بوصفه نموذجاً للرواية الواقعية، وفي الولايات المتحدة الأميركية يسمون هذا النوع من الأدب بالأدب النقدي الاجتماعي، ويبدو أن طالباً نابهاً قد تنبه لخطأ الأستاذ المعتاد نتيجة ما تعانيه المؤسسات الجامعية من ترهل أكاديمي وتورم في الدراسات المكتبية والمتحفية إن جاز لنا التعبير وأشار رافعاً يده طلباً للمداخلة، وكعادة الأستاذ الجامعي في مصر والذي نادراً ما يتسم بالتسامح واتساع الأفق نتيجة التربية الأكاديمية التي ترعرع في كنفها أذن له بالمداخلة على امتعاض واحتقان لم يبنه للطلاب.
لم يزد الطالب حديثاً سوى أنه قال إن نجيب محفوظ هو رائد الرواية التاريخية بدليل روايته الثلاث “عبث الأقدار”، و”رادوبيس”، و”كفاح طيبة”، وليست روايات “بداية ونهاية” و”القاهرة الجديدة” و”السراب” و”الثلاثية الشهيرة” هي دليل كونه أنوذجاً للرواية الواقعية.
ويبدو أن طالباً آخر قد استدرك ما فات الأستاذ والطالب في قصرهما الواقعية والتاريخية كنمطين روائيين لنجيب محفوظ، ولربما أنه لم يدرك المكان المتحفي الذي يجلس فيه وهو قاعة المحاضرات الصامتة فتكلم بغير إذن أو إيذان فقال: يا أستاذ إن نجيب محفوظ هو رائد الأدب الرمزي والرواية الرمزية القائمة على التأمل وخير دليل على ذلك رواياته “الطريق”، و”السمان والخريف”، و”ميرامار”، و”الحرافيش”.
وقام طالب آخر وقال أظن أن نجيب محفوظ هو رائد رواية البوح الصوفي بدليل “أصداء السيرة الذاتية”، و”أحلام فترة النقاهة لكن الحقيقة أن أدب نجيب محفوظ الروائي يمثل أوبرا الحكايات ومقهى الشعب ومن الصعب محاولة تصنيفه وفق هوس وهوى النقاد بحمية التصنيف وقولبة الإبداع، فأنت أمام عالم مزدحم بغير ملل أو صخب حكائي بالأحداث والوقائع الجدلية، هذه الأحداث وإن بدت بسيطة في بعض الأحايين إلا أن كل حدث منها يفجر طاقات من الأسئلة المثيرة التي تستدعي التفكير ولا تجعل العقل بمأمن عن التأويل والتفسير.
حقاً مجموعة ضخمة من الأعمال الروائية تمثل مغارة من الأسئلة التي يصعب تصنيف كاتبها تحت مظلة قاصرة مانعة، لذا فنجيب محفوظ هو بحق مزار سياحي يستقطب المعارضين قبل المؤيدين وهو مؤسسة شعبية أدبية تنصر بداخلها كافة التيارات الأدبية بغير انحناء أو محاولة انهزام داخلية.
وإذا كانت روايات نجيب محفوظ قد حققت – ولا تزال – الشهرة والصيت وبلوغ المأرب من حيث جودتها ورصانتها وإثارتها لأسئلة سابرة تغوص في المجتمع، فإن عميد الرواية العربية نجيب محفوظ يشبه الحكاية، بل قلما نجد أديباً صار الاهتمام بشخصه مثل الوعي بأعماله وهذا تحقق بالفعل لنجيب محفوظ كما تحقق لكتاب آخرين مثل ماركيز، وسارتر، وإليوت، وصامويل بيكيت.
وربما هذه السطور ليست موجهة إلى القارئ العادي الذي اعتاد القراءة وفعلها واستمرأت أذناه سماع اسم نجيب محفوظ منذ صغره، إنما هي سطور لقارئ استثنائي لأن القراءة بالفعل في هذه الأيام فعل استثنائي قد يبدو غريبا لأن الجيل الحالي تيقن بواقع الإنترنت وصار مريداً مطيعاً لشبكات التواصل الاجتماعي، رافضاً أية محاولة لجذبه نحو الورق وصناعه الذين أبدعوا وقدموا للحضارة صروحاً جديدة.
بِدَايَاتٌ وتَكْوِيْن:
نجيب محفوظ ابن القاهرة القديمة تحديداً حي الجمالية التي لم يشر إليها بحرف واحد أو سطر يتيم باسمها في إحدى رواياته وكأنها حرم خاص به رغم أن واقع روايته كلها تفوح بعطر الجمالية وتفاصيلها الساحرة، ولقد سمي بهذا الاسم تيمناً بالطيب الذي أشرف على ولادته وهو الدكتور نجيب باشا محفوظ القبطي، واسمه بذلك مركب ووالده هو عبدالعزيز إبراهيم الذي لم يقرأ في حياته سوى كتابين فقط، القرآن الكريم، وحديث عيسى بن هشام للمويلحي، لأنه كان صديقاً له وهذا يعكس مدى تأثر أديبنا العالمي بعالم الحكايات والقصص. أما أمه التي قال عنها نجيب في أحاديثه إنها امرأة لا تقرأ ولا تكتب، وكثيرة الصمت إلا أنها إن تحدثت صارت مخزناً للحكايات الشعبية وهي بذلك تصبح رافداً مهماً وخصباً من روافد تكوين نجيب محفوظ الإبداعية.
هذا حدث كثيراً في عالم الروائيين العرب عموماً والمصريين على وجه الخصوص، إلا في حالة نجيب محفوظ الذي قرر أن يكون أديب المدينة وشاعر الحارة، والمدينة في أدب نجيب محفوظ بديلاً عن القرية التي يمكن اختزال تفاصيلها في المكونات الحضارية لها، أما المدينة في معادل موضوعي للعالم الكبير بتراكيبها المتباينة وصفاتها التي تأبى التصنيف وخير تمثيل لذلك ملحمة الحرافيش التي تظل درة أعمال نجيب محفوظ على الإطلاق.
وقديماً كنا ندرس بالجامعة قاعدة مفادها أن القرية وتفاصيلها هي الأقرب لفن الرواية باعتبار أن الرواية عمل أدبي طويل نسبياً عن القصة والقصة القصيرة وأن عالم القرية برتابته وإيقاعه البطئ صالح تماماً لتكنيكات الرواية، إلا أن نجيب محفوظ الكاتب الذي يعد استثنائياً في عالمنا الإبداعي استطاع أن ينقل الإيقاع الحكائي صوب الحارة والتي جعلها معادلاً موضوعياً للوطن تارة، وللعالم تارة أخرى، وفن الرواية عند نجيب محفوظ يمكن اختزاله في كاتب اجتهد في رصد تحولات المدينة النهرية الكبيرة .
كل كاتب يظل صندوقاً أسود من الأسرار والحكايات غير المعلنة بالنسبة لقارئيه، وهكذا هي عادة الشعراء والروائيين الذين يصرون أن يظلوا بمنأى عن أحداث أعمالهم وقصائدهم التي تبدو بعيدة بعض الشيء عن حياتهم أو رواياتهم التي لا تتصل بعوالمهم الحقيقية، لكن يظل نجيب محفوظ هو الكاتب الأنموذج الذي حقق معادلة التصالح بين النص والكاتب، ولم لا وهو يشبه الحكاية نفسه من حيث شخوص وحبكة وصراع وخاتمة.
ولم يحظ كاتب عربي باهتمام موجه صوب شخصه مثلما حظي نجيب محفوظ، لدرجة أن اسمه صار علامة تجارية أو ماركة عالمية في مجال الأدب، وكم من كاتب أو شاعر يسعى إلى وضع صورته بجوار عمله الفني من أجل أن يعرف، إلا أن نجيب محفوظ اسمه كفيل برسم صورته في ذهن القارئ بزيِّه التقليدي الذي لم يغيره باختلاف المناسبات والأحداث.
ويعتقد كثيرون أن نجيب محفوظ برواياته المتعددة استطاع أن يكتب تاريخ مصر بطريقته الخاصة، ليس بمعنى التحريف والتصحيف في حوادثه وتفاصيله إنما نقل الوقائع اليومية والسياسية بصورة روائية قصصية، وما أمتع نجيب محفوظ حينما يتحدث عن الوطن بطريقته أيضاً، فحينما سئل عن مصر وماذا تعني له قال: “مصر ليست مجرد قطعة أرض، مصر هي مخترعة الحضارة”، والحس الوطني لدى محفوظ يبدو جلياً لأنه لم يغادر الاهتمام بالوطن في إحداثيات رواياته بل عكس هموم الوطن والمواطن، ورصد بكفاءة المشكلات الآنية والمستقبلية التي يواجهها المجتمع ومن ذلك روايات “اللص والكلاب” و”الكرنك” و”ثرثرة فوق النيل”.
حتى حينما قامت الدنيا ولم تقعد حتى اليوم حول رواية أولاد حارتنا من قبل التيارات الدينية التي بالفعل بعضها لم تقرأ الرواية، أو قرأتها ولم تستطع فهمها وتأويلها تماما مثلما حدث لكافة كتابات الصوفي ابن عربي، فإن نجيب محفوظ نفسه التزم بموقفه من موافقة الأزهر الشريف على نشر الرواية بوصفه المؤسسة الدينية الرسمية في البلاد، رغم أن نجيب محفوظ نفسه اعترف من خلال برنامج تلفازي أن الرواية سياسية في المقام الأول، وأنه كتبها مسلسلة في عام 1959 وكان يوجه بها سؤالاً سياسياً لمجلس قيادة الثورة آنذاك عن الطريق الذي يرغبون السير فيه طريق أهو طريق الفتوات أم طريق الحرافيش؟
وباجتهاد شخصي أرى أن الأمر سرعان ما تحول من سياسي إلى ديني بإيعاز من بعض رجال الثورة الذين رأوا في رواية “أولاد حارتنا” هجوماً ضارياً صوب سياساتهم، لذا كان من الأحرى على النقاد ومؤرخي الرواية العربية أن يلتفتوا إلى سياق الهجوم الذي شنته التيارات الدينة ضد محفوظ وروايته والجميع يعلم حجم الهجمة الشرسة التي تعرض لها نجيب محفوظ إزاء رواية “أولاد حارتنا” ومنها ما كتبه الشيخ عبدالحميد كشك وضمه كتابه المعنون بـ “كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا”.
ومشكلة بعض التيارات الدينية المعاصرة أنهم بالفعل لم يقتربوا بجدية من عالم نجيب محفوظ، ولم يكترثوا بالتعرف على عالمه الشخصي الذي يعد جزءًا أصيلاً من إبداعه، واكتفوا فقط بآراء من سبقوهم والذين ربما لم يطالعوا أدب نجيب محفوظ في مجمله، والحقيقة أن نجيب محفوظ لم يكن أكثر من كاتب ملتزم أمام تفاصيل مجتمعه نقلها كما هي ولم يتجاوز العبث بهذه التفاصيل، ويكفي أنه ربط الرواية بتاريخ مصر على مر عصوره.
نوبل .. جَائزَةُ اللُّغَةِ:
منطقي جدا أن يفوز الشعر والشعراء العرب بجائزة نوبل في الأدب، لأن الشعر هو ديوان العرب، ولأن عدد الشعراء يفوق مئات بل ملايين الروائيين، فالقصيدة تشبه الرصاصة السريعة التي تنطلق من فوهة المسدس بخلاف الرواية التي تشبه المخاض العسير، ولأن الأمة العربية منذ فجرها أمة شعر، لكن الاستثناء هو فوز الرواية بالجائزة هذا من ناحية، وفوز نجيب محفوظ الذي ترفق وهو يرنو نحو مقدمة الرواية والروائيين فهذا استثناء آخر.
وحينما نتحدث عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل لا يهمنا كواليس الخبر، ومشاعر الأديب الذي صار عالمياً بشهادة تاريخية معتمدة، ولا كم الفرحة التي طغت على المشهدين الشعبي والأدبي على مستوى الوطن العربي، لكن الذي يهمنا ونحن ننقل نبذة مختصرة جدا للشباب عن عالم نجيب محفوظ هو الخطاب التاريخي الذي خطه نجيب محفوظ بقلمه وألقي في صدر تكريمه بالجائزة .
وهذا الخطاب يمكن توصيفه بأنه أشبه بخارطة الطريق للمواطن العربي بصفة عامة، وللكاتب والأديب بصفة خاصة، وهي بمثابة رسالة للتيارات الدينية التي لطالما هاجمت نجيب محفوظ وأعماله حتى يومنا هذا، ورسالة ثقافية للدول التي ترى نفسها أكثر تحضراً وهي في الواقع أكثر وحشية بدليل تسخير الإنسان على أراضيها.
هذا نجيب محفوظ الذي بدأ كلمته التاريخية مفتخراً بلغته العربية الرصينة، قال: “أرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثي إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم ولكنها الفائز الحقيقي بالجائزة”، وكم من كاتب يفوز بجائزة أدنى من نوبل في أية دولة أجنبية وسرعان ما تعلن إدارة الجائزة نبأ الفوز، فيهرول كاتب إلى صياغة كلمته بلغة أجنبية غير العربية رغم أن فوزه جاء نتيجة حصاد إبداعي بلغة جديرة بالاهتمام وهذا درس رائع وأنموذج مثالي ينبغي الاحتذاء به.
والدرس الثاني الذي أصر نجيب محفوظ أن يقدمه لنا أولاً ثم للغرب ثانياً الانتماء والولاء للحضارة الأولى والأصيلة، فيقول نجيب محفوظ في كلمته: “أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية”.
ويكفي ما قاله نجيب محفوظ عن الحضارة الإسلامية ليعي أولئك المتهوكون الذين لا يزالوا يدشنون حروباً ضارية ويوجهون سهاماً مسمومة صوب نجيب محفوظ ورواياته، وهي فرصة نجدد فيها الدعوة لمن أسهم ولا يزال يسهم في المشاركة بالحرب على نجيب محفوظ لكي يعيد قراءة كلمته التاريخية التي قدمت في حفل تتويجه ملكاً للأدب في عام 1988.
فنجيب محفوظ – الذي حاربه ولا يزال يحاربه المتأسلمون – ذكر أن الإسلام دعوة إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق، وهي دعوة تنهض على التسامح والمساواة، وأن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) هو باعتراف غير المسلمين قبل أهل الإسلام أعظم رجل في تاريخ البشرية، وأن الفتوحات الإسلامية استطاعت أت تغرس آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير، وأن الإسلام كدين سماوي رسالة تسامح لم تعرفها الإنسانية من قبل.
ميدل إيست أون لاين