نداء أسيزي .. عطش إلى السلام
قبل أيام عدّة كانت قنابل بدائيّة الصنع تنفجر في مدينة “دريسدن” الألمانيّة، بالقرب من مساجد ومراكز إسلاميّة، وحال معرفة أنّ “دريسدن” هذه هي منشأ حركة “بيغيدا” القوميّة العنصريّة، يفهم المرء مدى الضّرر والسوء الذي لحق بمساحة التسامح والتصالح في الذّات الأوروبيّة بعامّة، والألمانيّة بخاصّة.
على الجانب الآخر من الأطلسي، شاهد العالَم ما جرى في مدينة “شارلوت” الأميركيّة، من عنف تفجَّر بين الأميركيّين الأفارقة والأميركيّين البيض، من جرّاء مقتل الشاب “كيث سكوت”، ولا ينسى الذين تابعوا الحادث ومآلاته، ذلك المنظر غير الإنساني، حيث أقدمت مجموعة من الشباب الأميركيّين الأفارقة الجذور، على سحل شاب أبيض، أشبعوه ضرباً مبرّحاً، وهو يطلب الرحمة، لكن يبدو أنّ الأصوليّة العرقيّة في تلك الحالة، شابهت بل طابقت جذور الأصوليّة الدينيّة الأوروبيّة وفروعها.
المشهد نفسه تكرَّر في ولاية مينسوتا الأميركيّة، حيث أقدم شاب أميركي الجنسيّة، صومالي الأصل، مُسلم الديانة، على طعن عدد من الأميركيّين في أحد المتاجر الكبرى، وتردَّد أنّه سأل ضحاياه قبل طعنهم عن إيمانهم، وصاح “الله أكبر” قبل أن يلقى حتفه، على يد رجالات الأمن هناك، ما يجعلنا نتساءل هل القتل والعنف والنار والتدمير، وكلّ ما يدور في فلك تبعات الأصوليات العنيفة وتداعياتها له علاقة ما بحقيقة الأديان وخدمتها للإنسان.
فرنسيس أو الأسيزي
قبل نحو ثلاثين عاماً، كان العالَم على وشك الانفجار والدخول في مواجهة نوويّة لا تُبقي ولا تذر، كان ذلك في العام 1986، كان السلام والأمن العالميّان وقتها مُهدَّديْن بدرجة بالغة من جرّاء أصوليات إيديولوجية إن جاز التعبير، بين المُعسكرَين الشرقي والغربي، حلف الناتو، وحلف وأرسو، وساعتها دعا سعيد الذكر البابا الراحل “يوحنا بولس الثاني” بابا الفاتيكان، رؤساء الطوائف والمذاهب من كلّ أديان العالَم، للاجتماع في أسيزي، للصلاة من أجل السلام، وللوقوف في وجه العنف والخصام المتفجّر والذي يكاد يذهب بالبشرية إلى حيث لا رجعة.
لم تكن الدعوة للقاءٍ في مدينة أسيزي بالتحديد، دونما بقيّة المُدن الإيطالية والأوروبية، دعوة اعتباطية، ذلك لأنّها كانت ولا تزال تحمل عبقاً لتاريخ أحد أهمّ صنّاع السلام في التاريخ البشري، وأكبر وأكثر الرافضين لمشهد “الأصوليات الدينية الأوروبية”، في القرون قبل الوسطى بقليل، كانت أسيزي موطن “فرنسيس” الذي عُرف بالأسيزي، هذا الرجل الذي تجرَّد من مباهج الحياة، وأضحى أوّل داعٍ للتعايش والسِّلم مع العالَم الإسلامي.
في حياة “فرنسيس الأسيزي” كانت الحروب الصليبية تستعر نيرانها، وهنا شدّ فرنسيس الرحال ليُقابل سلطان المسلمين في مدينة دمياط المصرية، وليصيح بأعلى صوته مُنذراً معسكرات الصليبيّين بالهزيمة الساحقة، قائلاً لهم إنّ خطاياكم هي التي تسدّ الطريق إلى الأراضي المقدّسة لا المسلمين. وقد التقى بالسلطان الكامل ابن السلطان العادل الأيوبي الذي أكرم وفادته، ودارت بينهما حوارات ومناقشات، إلى أن رحل بسلام من مصر إلى الأراضي المقدّسة في فلسطين، لتنتصر رسالة المحبّة والتسامح، على دعوات العنف الأوروبي الذي قاتَل باسم الله.
في الفترة من 18 أيلول (سبتمبر) الماضي وحتّى العشرين منه، كانت مؤسّسة “سانت أيجيديو” الكاثوليكية تُطلق نداءً لمؤتمرٍ عُقد في مدينة أسيزي عينها تحت عنوان “أسيزي عطش إلى السلام”.
كانت فكرة اللّقاء بحسب “ماركو إيمباليوتسو”، رئيس تلك الجماعة التي تلعب دَوراً في غاية الأهمّية على صعيد الحياة الفكرية والسياسية حول العالَم، تدور حول كيفيّة مواجَهة الصراعات والإرهاب والعنف الذي بات يملأ العالَم، بسبب التمحور حول الذّات وعبادتها، الأمر الذي يعني أنّ زمن الأصوليات بحسب تعريفه كان يقضي على ما تبقّى في العالَم من مساحات للأمن والأمان، والتفاهم والوئام.
على مدى ثلاثة أيام، وفي حضور قرابة 500 قائد ديني من أصقاع العالَم المختلفة وبقاعه، يمثّلون تسع ديانات، تناقَش الحضور في كيفيّة جعل روح أسيزي أكثر فعاليّة، وكيف يمكن للقادة الدينيّين أن يسهموا في تحقيق السلام حول العالَم، وتقليص الآثار الضارّة للتعصّب والتمذهب؟
توقّف قادة أديان العالَم في أسيزي أمام عالَمنا، وهل فقد عقله وضوابطه؟ ثمّ كيف نستطيع أن نقلّص مساحة الفكر والعقل المغشوشَيْن عند الأصوليّين جميعهم من دون تفريق؟ أولئك الذين يشكّلون المادّة الخامّ للإرهابيّين، ويحتكرون ويقتلون باسم الله؟ ثمّ، وهذا هو الأهمّ، أين ينفتح مجالٌ للسماحة والاحترام والمحبّة والسلام في قريتنا العالميّة؟
كانت هناك رغبة عامّة للبحث في جذور علاقات التسامح والتصالح بين الشرق والغرب وجسورها، بين الإسلام والمسيحيّة بنوع خاصّ، واستحضار روح الأسيزي، من خلال البحث في القواعد التي خلّفها لنا الأنبياء والحكماء، منذ آلاف السنين. ذلك أنّنا إذا أردنا النجاة من طوفان الأصولية العنيفة المحدّثة، والعيش معاً في عالَمنا المُعاصر، لا بدّ من اجتراح قواعد ومبادئ وأُسس ومناهج للمُسامَحة والتصرّفات المثالية التى يمكنها أن تُنشِّط الاحترام تجاه الآخر المُغاير في اللّون أو الجنس أو الدين، فضلاً عن تقدير الأقلّيات العرقية والإثنيّات وتقبّلها.
حمل لقاء أسيزي مشهداً واضحاً للتواضع الحقيقي والتسامح غير المغشوش، جاء ذلك في الشهادة التي قدّمها المونسينيور “دومنيك لوبران” رئيس أساقفة منطقة “روان” في فرنسا، والتي جرت فيها الحادثة النكراء، التي تعرَّض فيها الكاهن الفرنسي الكبير السنّ “جاك هامل” للذبح على يد بعض المتطرّفين.
قال الأسقف “دومنيك” في شهادته : “أنا متعطّش إلى السلام بعد مقتل الأب هامل، والأمر ليس بهذه السهولة؛ عليّ أن أصلّي وأطلب من الله نعمة الغفران الحقيقي، والحبّ الصحيح، الذي يُمكِّن من التسامح والسلام، والمودّة الصافية، وقبول الآخر؛ بحيث يكون ذلك علامة حقيقيّة في طريق مجابهة أصوليّات متوحشّة وبربريّة، وعلامة في طريق الحياة أمام صُنّاع الموت”.
هذا المفهوم عينه تحدّث به المونسنيور “فنشنزو باليا” رئيس “الأكاديميّة الحبرية لأجل الحياة”، والذي قارَن بين حالة الحرب العالميّة التي تكلّم عنها البابا فرانسيس بابا روما منذ فترة، وروح أسيزي. وحدّثنا المونسنيور “باليا” قائلاً : “أظنّ أنّ هذا اليوم هو من علامات الأزمنة، لأنّنا نرى علاقة تختلف عن عالَم النزاع والكره والأنانية والعنف، نحن نشهد على معجزة اللّقاء والحوار، معجزة رؤية الجميع معاً، وفي سلام. أمّا السلام فيعني أن نكون في حوار وفي احترام لبعضنا البعض، أن نكون في قلب الحبّ الذي يعاود اكتشاف وجود الخالق سبحانه في كلّ إنسان”.
رياح التسامح تهبّ من أسيزي
في كلمته الختاميّة، كرّر البابا لأكثر من مرّة : “وحده السلام مقدّس وليس الحرب”، مُضيفاً أنّ “أيّ شكل من أشكال العنف لا يمثّل الطبيعة الحقيقيّة للدّين… لقد أتينا إلى أسيزي كحجّاج بهدف البحث عن السلام”، ثمّ ذكَّر الجميع بالنزاعات المَنسيَّة، والألم الذي يعيشه اللّاجئون وقلق الشعوب التوّاقة إلى السلام.
بحسب بابا روما، الذي اتّخذ اسم الأسيزي عنواناً لحبريّته، فإنّ السلام يعني “غفراناً” يسمح بشفاء جراحات الماضي؛ السلام يعني تعاوناً وتبادلاً حيّاً مع الآخر، ودعوة إلى اكتساب ثقافة اللّقاء من خلال تنقية الضمير من كلّ تجربة العنف التي تعاكس اسم الله.
لم يكن اللّقاء مجرّد فرصة للتعبير الراقي عن المشاعر الطيّبة؛ إذ اعتبر المضيف الأب الأقدس، أنّ القادة الدينيّين مدعوّون لأن يكونوا جسوراً صلبة للحوار، ووسطاء مُبدعين للسلام، لأنّ السلام هو مسؤولية عالَمية.
البيان الختامي الذي صدر عن اللّقاء الذي أعدّته جماعة “سانت أيجيديو” أكّد على أنّ: “مَن يتذرّع باسم الله لتبرير الإرهاب والعنف والحرب، لا يعمل في سبيله، بل إنّ الحرب باسم الدين تُصبح حرباً ضدّ الدّين نفسه، أيّ دين، وأنّه بقناعة راسخة نُشدِّد على أنّ العنف والإرهاب لا يتّفقان مع الروح الأصليّة للدّين”.
أمّا الزعماء الدينيّون المجتمعون هناك فقد قالوا في نهاية البيان الذي وقّعوه : “لقد أصغينا لصوت الفقراء والأطفال وجيل الشباب والنساء والكثيرين من الأخوة والأخوات الذين يعانون من جرّاء الحرب، ومعهم نقول: لا للحرب، ولن تبقى صرخة الكثير من الناس الأبرياء من دون آذان صاغية، لذا نحن نناشد قادة الدّول لنزع فتيل دوافع الحرب، كالجشع والسلطة والمال والمُتاجرة بالأسلحة والمصالح الفردية، والانتقام للماضي، ونسعى لإزالة الأسباب الكامنة وراء الصراعات، كحالات الفقر والظلم وعدم المساواة والاستغلال وعدم احترام حياة الإنسان”.
أخيراً، ولئن كانت الأصوليّات، على أنواعها، تُعنى دائماً وأبداً بالذّات، وكأنّها هي فقط أصل الشيء Authentic، وتقوم كذلك بإيثارها على ما سواها، والاكتفاء بها، وإقصاء كلّ مَن هو دونها، فإنّ التسامح يُعنى بالآخر، ويفتح باب الحوار للسلام، ويُقفل باباً آخر شرّيراً هو باب الحرب؛ فالحوار كما يقول “أندريا ريكاردي”، مؤسِّس جماعة “سانت ايجيديو” هو : “دربٌ من دروب العيش المُشترك، الأصولي يريد أن يعيش هو ونموت نحن، في حين أنّ الحوار والتسامح يعنيان أن نحيا معاً أو نموت معاً”.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)