«نشوة النصر» الإسرائيلية تتبدّد: «الذئاب» تعود… من جنوب الضفة
دخلت الخليل وأريحا، على مسافة أيّام قليلة من انتخابات «الكنيست»، على خطّ الاشتباك، لتُبدِّد «نشوة النصر» الإسرائيلية في نابلس وجنين، ومعها جميع إجراءات الطوارئ الأمنية التي تتعزّز تباعاً خشيةَ تنفيذ عمليات فدائية. عمليات أقرّ وزير أمن العدو، بيني غانتس، أنه لن يكون في المستطاع «منْعها كلّها»، متحدّثاً عن «أثمان مؤلمة وصعبة… وتحدّيات كبيرة». وتُنذر عمليتا الخليل وأريحا بتداعيات سيتحدَّد حجمها في الأيام المقبلة، مع تمدُّد حالة الاشتباك من شمال الضفة إلى جنوبها، ما يضع المنطقة بأكملها – وذلك سيناريو الرعب الإسرائيلي – في حالة مقاومة لن يكون من الممكن تحجيمها
في ذروة الاستنفار الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلّة، جاءت عملية «كريات أربع» التي نفّذها الشهيد محمد الجعبري، لتهدِم نشوة المنظومة الأمنية والاستخباراتية للعدو، والتي يعيشها الاحتلال منذ ارتكب جرائمه الأخيرة في نابلس وجنين؛ كما جاءت لتُبدِّد جميع الإجراءات التي اتّخذتها المؤسستَان العسكرية والأمنية مع اقتراب انتخابات «الكنيست»، خشيةَ تنفيذ عمليات فدائية. وتُنذر عملية الخليل التي تحمل في طيّاتها دلالات عسكرية وجغرافية غاية في الأهميّة، بتداعيات سيتحدَّد حجمها في الأيّام المقبلة. وإلى مقتل مستوطن وإصابة آخرين، فإن تداعياتها تبدو أكثر خطورة، مع تحرُّك مدينة الخليل بعد أشهر من حالة الهدوء النسبي الذي عاشته المحافظة، والذي من شأنه – إذا قُدِّر له أن يستمرّ ويتّسع – أن يقلب الأوضاع في الضفة رأساً على عقب، ولا سيما أن العملية استُتبعت بإطلاق نار آخر تجاه جنود الاحتلال قرب بلدة بني نعيم.
وسارع رئيس حكومة العدو، يائير لابيد، إلى تقييم الوضع الأمني في أعقاب العملية، آمراً بتعزيز القوات الأمنية في المنطقة، على أن تستمرّ حالة التأهُّب في مختلف الساحات، فيما قامت قوات الاحتلال بإغلاق جميع الطرق والمداخل المؤدية إلى مدينة الخليل، ومنعت الدخول إليها أو الخروج منها. وإلى ذلك، اقتحمت منزل الجعبري، وأخذت قياساته تمهيداً لهدمه، كما اعتقلت شقيق الشهيد. من جهته، اعترف وزير الأمن، بيني غانتس، أنه «ليس في الإمكان منْع كلّ العمليات المسلّحة»، مضيفاً: «في الإمكان دائماً حدوث عمليات. والأثمان مؤلمة وصعبة، لكن الوضع معقَّد. وهناك تحدّيات كبيرة، واسعة وطويلة، وصمدنا أمام هذه التحديات في الماضي، وسنصمد أمامها الآن». وفي الإطار نفسه، ذكرت إذاعة جيش الاحتلال أنه سيتمّ نشْر سريتَين من «حرس الحدود» في الساعات المقبلة، لتعزيز منطقة الخليل، كما يدرس الجيش تعزيزات إضافية ستصل إلى المنطقة خلال الأيام القليلة المقبلة.
يُعدّ الجعبري، منفّذ العملية، أحد عناصر حركة «حماس» في الخليل، وهو شقيق الأسير المحرّر والمبعد إلى قطاع غزة، وائل الجعبري، وقد تمكّن من تنفيذ عمليّته بعدما نجح في الوصول إلى مستوطنة «كريات أربع»، كبرى مستوطنات الضفة، حيث استهدَف مستوطنين عند مدخل أحد أحيائها ببندقية «M16»، ما أسفر عن إصابة مستوطن ونجله، فيما أصيب الآخرون خلال محاولتهم مساعدتهما، ومن بينهم أحد قادة المستوطنين، عوفر أوهانا. وذكرت مصادر عبرية أن السلاح المستخدَم في العملية تم الاستيلاء عليه مع كمية أسلحة أخرى، قبل أشهر، من إحدى قواعد جيش الاحتلال في النقب.
وبتنفيذها هذه العملية، أثبتت المقاومة قدرتها على مفاجأة العدو بضربات قويّة، وكسْر الوهم الأمني الذي يحاول ادّعاء تجسيده على الأرض، خاصّة أنها جاءت بعد أيّام من معركة شرسة خاضتها مجموعة «عرين الأسود» في مدينة نابلس، واستشهد خلالها قائدها وديع الحوح. وبهذا، تكون العملية قد كسرت طَوْق الاحتواء والحصار المفروض على المقاومة في نابلس وجنين، وأبعدت خطر تفكيك وإنهاء «العرين» أو أيّ خليّة مسلّحة. كذلك، يمكن لعملية الخليل أن تمثّل شرارة إطلاق المارد في جنوب الضفة، وتحديداً الخليل، التي تُعدّ خزاناً بشريّاً وعسكريّاً هائلاً، إذ تتوفّر فيها الأسلحة بكثرة، وكذلك المستوطنون الذين سيتحوّلون إلى أهداف للمقاومين. كما يمكن أن تشكّل امتداداً لحالة المقاومة في شمال الضفة الغربية، كونها تُعدّ ضربة قويّة في الرأس، نظراً إلى البراعة في التنفيذ، والاحترافية في اختيار المكان والتوقيت. وتعيش منطقة شمال الضفة، وتحديداً مدينة نابلس، حالة حرب متواصلة وحصاراً إسرائيليّاً مطبِقاً، في ضوء استمرار العمل المقاوم، وعمليات إطلاق النار على الحواجز العسكرية، وفشل الاحتلال في إنهاء ظاهرة مجموعة «عرين الأسود»، التي من شأن عملية الخليل أن تخفّف الضغط عنها، إذا ما تداعت أحداثها وتطوّرت على الأرض. وستعطي الخليل حالة المقاومة المتصاعدة في الضفة زخماً وقوّة هائلَيْن، بفعل خصوصيّتها، التي تنبع أوّلاً من ضرب حالة الاستقرار والهدوء التي روّجها الاحتلال لمدينة الخليل كمثال للهدوء والاستقرار كونها المدينة الأكبر مساحة والأكثر تعداداً للسكان، ودخولها على خط الاشتباك الذي سيمتدّ من جنين شمالاً إلى الخليل جنوباً، سيعني – إذا ما تحقَّق – استنزاف جيش الاحتلال وقواته. وقد جاءت العملية بعد نحو أسبوعين من بيان «العرين» الذي قالت فيه إنها تنتظر «خليل الرحمن وبيت لحم لتخطّا أوّل بيان للعرين بالدم والرصاص».
ويستهدف الاستيطان مدينة الخليل منذ اليوم الأوّل لاحتلالها، وهي تُعدّ من أكثر المناطق التي يرفض الاحتلال التنازل عنها أو تسليمها، وتحديداً بلدتها القديمة المجاورة لمستوطنة «كريات أربع». وهذا يعني أن العملية ستلقي بظلالها على ما تقدَّم، بعدما أفقدت العدو الشعور بالأمان، والذي سيتنامى إذا ما قُدّر لحالة المقاومة في المحافظة أن تنمو. وجاءت عملية الخليل في توقيت حسّاس وخطير عاشه الفلسطينيون في الأيام الأخيرة، في ظلّ محاولة الاحتلال كسْر مجموعة «العرين» بعد اغتيال قائدها في نابلس، وتكثيف بثّ الأخبار حول تسليم خمسة عناصر من المجموعة أنفسهم للسلطة، في محاولة لضرب الروح المعنوية للبيئة الشعبية الحاضنة، وللجمهور، وتشويه مقاتلي «العرين». لكنّ تلك المحاولات تبدَّدت مساء الجمعة، حين خرجت مسيرة شعبية عارمة وسط نابلس لدعم المجموعة وإسنادها، شارك فيها قادة «العرين»، محمولين على الأكتاف، في مشهد بدّد رواية الاحتلال، الذي عاد، بحسب وسائل إعلام عبرية ومن خلال «الشاباك»، لبعث رسائل تهديد إلى مجموعة من قيادة «العرين»، بتصفية أفرادها في الوقت القريب. وذكر موقع عبري، في هذا الإطار، أن التهديدات وصلت إلى القائد في «العرين»، أسامة الطويل، الذي يَعتبره الاحتلال أحد عناصر «كتائب القسام»، إضافة إلى محمد طبنجة، أحد قادة «الجبهة الشعبية» في «العرين»، وحسام إسليم أحد عناصر الذراع العسكرية لـ«حماس».
ولا يمكن إغفال الأثر الذي ستتركه العملية على الساحة الداخلية الإسرائيلية، التي تشهد انتخابات مستعرة بعد أيّام قليلة؛ ففيما حاول المتطرّف إيتمار بن غفير استجلاب دعْم المستوطنين له بادّعاء تعرُّض منزله وعائلته لإطلاق نار في العملية – وهو ما نفته المصادر الأمنية لاحقاً -، إلّا أن من شأنها أن تترك أثراً على بيني غانتس ويائير لابيد اللذين يسعيان إلى الإبقاء على حظوظهما في الانتخابات من خلال الدم الفلسطيني في نابلس، لكن عملية الخليل يمكن أن تطيحهما أيضاً.
وبعد ثمانية أشهر على إطلاقها عملية «كاسر الأمواج» للقضاء على المقاومة في مدينة جنين، عقب عمليتَي رعد خازم وضياء حمارشة، تجد إسرائيل نفسها أمام تسونامي من العمل المقاوم؛ فبينما هي فشلت في القضاء على المقاومة في جنين، فإنها انتقلت إلى مدينة نابلس التي شهدت ولادة «عرين الأسود»، فيما تثبت العملية الأخيرة أن الأمواج وصلت إلى جنوب الضفة الغربية، ما يعني أن الأخيرة باتت مرشّحة لموجة عمليات واسعة في الفترة المقبلة. وتعيش دولة الاحتلال حالة استنفار عالية، إذ جاءت العملية لتثبت مرّة أخرى أنها أوهن من بيت العنكبوت، وفق سيناريو إذا ما تحقَّق فإنه سيشكّل أسوأ الكوابيس التي كانت إسرائيل تخشاها، وهو امتداد حالة المقاومة والاشتباك في عموم الضفة الغربية.
صحيفة الأخبار اللبنانية