نصرالله يمهّد لمعركة حلب ويقلل من أهمية الدور الروسي
من لا يذكر تلك الجملة الأيقونة التي قالها الأمين العام لـ «حزب الله» قبل عشر سنوات في أوج تصدي رجال المقاومة للعدوان الإسرائيلي؟
قال السيد حسن نصرالله : «البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية، وعلى بيوت الناس، وعلى المدنيين، انظروا اليها تحترق» (في البحر قبالة العاصمة). نزل ملايين العرب الى الشوارع وهم يحملون صوره وأعلام «حزب الله». قارب في مخيلتهم صورة الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر.
قبل أسابيع، فاجأ نصرالله الجميع، وربما «حزب الله» نفسه، بقوله إن «أشرف وأفضل وأعظم ما فعلته في حياتي هو الخطاب الذي ألقيته ثاني يوم من الحرب السعودية على اليمن». إن أفعال التفضيل هنا «أشرف وأفضل وأعظم» تعني علمياً أن السعودية أخطر من إسرائيل، وأن الدفاع عن اليمن واجب شرعي ديني.
ثم جاء خطاب ذكرى أربعين القيادي في «حزب الله» الشهيد مصطفى بدر الدين (ذو الفقار) يوم الجمعة المنصرم، ليكمل نصرالله فيه هجومه على السعودية ويوسعه باتجاه العائلة المالكة في البحرين. فاجأ أيضا بتعمُّده الكشف عن ان كل تمويل الحزب من ايران.
ماذا يريد نصرالله؟
من الصعب اليوم التعاطي مع خطاب الأمين العام لـ «حزب الله» من دون أن يُصنف المرء في خانة الحليف أو الخصم، فآلة التخوين جاهزة عند الجميع لبنانيا. ثم إن الانقسام الإقليمي والدولي الحاد، يدفع كل طرف لمحاولة القضاء على الآخر بكل الوسائل.
تفادياً لذلك، سنحاول في هذه الدراسة الموجزة، تطبيق نظرية علمية على خطاب نصرالله، تُسمى «التحليل البراغماتي للخطاب السياسي». هذا منهجٌ يرصد «أفعال الخطاب» وليس الجمل بحد ذاتها، أطلقه فلاسفة لسانيون كبار في الغرب (أمثال جون اوستن وجون سيرل وهربرت غرايس وكاترين كيربرا اوريكيوني وفرانسيس جاك وغيرهم)، وهو يختلف عن البراغماتية الذرائعية التي كان جون ديوي الأميركي أبرز أربابها. سنستند أيضا في بحثنا الى التحليلين الكمي والنوعي، لنحاول معرفة هل أن السيد نصرالله انحرف عن خطاب المقاومة وصار جزءا من المحور الايراني ومحور المقاومة المناهض للسعودية وتركيا والغرب؟ أم أنه، وبما يمثله وحده من آلة إعلامية قائمة بذاتها، يريد رفع المعنويات والرد على من يعتبرهم أعداء المقاومة وأرباب التقسيم والإرهاب؟
جدول يختصر أبرز المفردات التي تضمنها الخطاب الأخير لنصرالله:
في تحليل قيم هذه المفردات، نستنتج الآتي:
هو خطاب ديني أولا، تكررت فيه مفردة الجلالة ومشتقاتها (77 مرة). طبعا يزيد حضور مثل هذه المفردات في المناسبات الدينية (شهر رمضان) ولمناسبة أربعين «قائد شهيد» من الحزب. لكن التكرار يشير ايضا الى موروث ديني وعادات يغلب عليها الحزن والمآتم والشهادة تيمناً بكربلاء ومقتل الحسن والحسين. تكررت مفردة شهيد ومشتقاتها 44 مرة.
ان استخدام مفردات وعبارات تتعلق بالسعودية والعائلة المالكة والبحرين والعائلة المالكة نحو 54 مرة، يشير بوضوح الى أن استهداف الرياض والمنامة في الخطاب هو أولية ولأجله تم تخصيص الجزء الأكبر منه. الرقم هنا يفوق 4 مرات مفردة إسرائيل ومشتقاتها. صحيح أن نصرالله وعد بالحديث عن إسرائيل يوم الجمعة المقبل (يوم القدس العالمي)، لكن هذا ليس الخطاب الأول الذي يكون فيه الكلام عن السعودية بشراسة أو ربما بأكثر من الكلام عن إسرائيل العدو التاريخي للحزب. وفي بعض استخدامات مفردة إسرائيل هنا، جاء ربطها بـ «تطور العلاقات العربية الإسرائيلية» وبمؤتمر «هرتزيليا ومجمل الصراع العربي الإسرائيلي». هنا أيضا المقصود هي السعودية.
38 مرة تكررت مفردة «حلب». هذا رقم قياسي في خطابات نصرالله. في الأمر تمهيد واضح لمعركة قريبة وشرسة. تبريره للأمر هو أن القتال دفاعا عن حلب «هو دفاع عن بقية سوريا، وعن دمشق ولبنان والعراق والأردن..ألخ». هو يؤكد أن الحضور سيزداد والتراجع لا يجوز، ثم يوجه ما يشبه أمر المعركة لمقاتلي الحزب: «… أنتم ستسقطون مشاريع التكفير والفتنة والهيمنة والتسلط في المنطقة كما فعلتم في حرب تموز». كذلك يستبق نصرالله الخسائر المحتملة فيتحدث عن «معركة طاحنة» وعن «شهداء وقوافل شهداء، لأنه من الشهداء والشهادة يأتي النصر…». هذا إذاً بوضوح خطاب ما قبل المعركة الكبرى في حلب. هو قالها صراحة: «المعركة الحقيقية، الاستراتيجية الكبرى الآن في سوريا هي المعركة في مدينة حلب وفي منطقة حلب».
ماذا لو استمر الروس في معارضة معركة حلب؟
في خطاب نصرالله، اعتراف أولا بأن «أميركا ومجلس الأمن الدولي ضغطا على روسيا وعلى المجتمع الدولي وفرضا على الجميع وقف إطلاق النار»، وفيه لوم واضح لموسكو بقوله عبر أسئلته المشككة: «من استفاد من وقف إطلاق النار في حلب؟ الذين جاؤوا الآن بالآلاف من المقاتلين والدبابات والملالات والمدافع والذخيرة..». هذا يعني على نحو غير مباشر أننا لن نتركهم يفرضون مرة ثانية وقفاً لإطلاق النار لا يناسبنا. هنا يتعمد نصرالله القول برسالة واضحة الاتجاهات الى موسكو والى من يريد أن يسمع «الحضور الروسي طبعا أعطى دفعا كبيرا للمعركة في سوريا، لكن دائما يجب أن نُذكّر بأن السوريين وأصدقاءهم قاتلوا 4 سنوات… ولم يكن هناك أي أحد لا طيران روسي ولا قواعد عسكرية روسية ولا شيء من هذا القبيل».
مفردة «لكن» في الخطاب تجهر بما قيل بخجل مرارا في السابق، عن تباين ما بين ايران و «حزب الله» والجيش السوري من جهة، وموسكو من جهة ثانية حول من؟ وكيف؟ تم فرض وقف إطلاق النار في لحظة غير مناسبة في حلب.
في الخطاب ترددت عبارة مصارف ومشتقاتها 10 مرات. كان في البداية شرح لما حصل وتوضيح لعدم حاجة الحزب الى القطاع المصرفي. لكن التدقيق في كلام نصرالله يشي بتهديد ووعيد. قال: «لا يستطيع أي قانون أن يمنع وصول المال الينا» ومن يعترض فـ «ليشربوا من ماء البحر»، ثم كاد يخوّن من «كانوا أميركيين أكثر من الأميركان»، وقال «هناك لبنانيون ذهبوا الى واشنطن وحرّضوا… ويوجد أعداء قد عملوا على هذا الموضوع»، وهنا يتوعد ايضا: «هذا اعتداء على جمهورنا وعلى عائلاتنا، ونرفض نحن هذا الاعتداء ولن نقبل بهذا الاعتداء ولن نسمح بهذا الاعتداء…». كررها مرة ثانية: «نحن لا نقبل بأي تصرف عدواني تجاه أناسنا». وبعد أن يتهم الآخرين بتدمير الاقتصاد اللبناني يرمي جزرة الانفتاح والحوار قائلا: «هناك أمور يتم حلها وهناك أمور ان شاء الله سيتم حلها، والمسار الخاص بها مسار إيجابي».
يبقى لبنان ثابتا في مفردات معظم خطابات نصرالله. هنا يكرر مفردة «لبنان» 47 مرة، في خطابات أخرى يزيد الرقم. فهو يربط كل ما يقوم به الحزب في الداخل والخارج بمصلحة لبنان والدفاع عن اللبنانيين. لكن كلامه قبل فترة بأن الحزب صار جزءا من قوة إقليمية، وكلامه الجمعة عن تمويل كامل من ايران، يقدمان لخصومه أفضل وسيلة للرد عليه.
في أفعال خطاب نصرالله
منذ كتاب «الخطابة» لأرسطو حتى اليوم، لا يوجد خطاب سياسي بلا هدف. الهدف الاول هو التأثير على الجمهور (المتلقّي) وجذبه للقيام بـ «فعل» معين. هذا ما يسميه أرباب البراغماتية بـ «أفعال الكلام» أو «أفعال الخطاب». لا يوجد في الحياة كلام بلا فعل. «حين نتحدث نفعل» يقول جون اوستن. بالتالي يمكننا رصد بعض أفعال أساسية في خطاب نصرالله:
فعل توجيهي: مثلا حين يوجه شباب المقاومة الى معركة حلب.
فعل تحذيري: حين يحذر من المساس مصرفيا ببيئة المقاومة. وحين يحذر ايضا سلطات البحرين، من أن الذين كانوا يضبطون الحراك الشعبي سلميا هم العلماء الذين إما سُجن بعضهم أو الآن تنزع جنسية بعضهم الآخر، وعلى رأسهم آية الله الشيخ عيسى قاسم». والإشارات هنا مهمة: «الغليان، حماسة الشباب، نعرف أن التحكم بمشاعر الناس وعواطفهم وغضبهم أمر صعب».
فعل الوعد: في حديثه الى مقاتلي الحزب في حلب «أنتم الذين ستسقطون مشاريع التكفير والفتنة والهيمنة والتسلط في المنطقة كما فعلتم في حرب تموز». هنا الوعد بالنصر مرتبط بموروث الانتصار على إسرائيل. والربط بينهما متعمد.
فعل الصمت: الصمت الأبرز هنا كان حول «قطر». فهو لم يذكرها أبدا في الخطاب. الأكيد أن هذا لم يحصل سهواً، فهل تغيرت قطر حيال سوريا وايران والعراق واليمن، أم ان نصرالله يرى أن الأولوية الآن للتركيز على السعودية؟
في الشكل والسياق: لا يتسع المقام هنا لتحليل دقيق لصوت السيد نصرالله وإلقائه ولغته وحركات جسده في الخطاب، لكن الأكيد أن رفع الصوت عاليا في بعض أماكن الخطاب قد لا يفي بالغرض المطلوب حتى ولو انه يفيد التعبئة ويخاطب بعض الغرائز، كما ان استخدام بعض العبارات مثل «الأغبياء» وقبلها «التنابل» يناقض تماما موقع ومقام قائد يعتبر نموذجا سياسيا ودينيا لبيئة واسعة. فنصرالله ينجح أكثر في تمرير رسائل قوية بابتسامة بسيطة مما لو يرفع صوته.
اذا اختصرنا الخطاب، يمكن القول اذاً من خلال بعض أفعال خطابه، ان السيد نصرالله يمهد فعلياً لمعركة حلب، ويحذر القطاع المصرفي في لبنان، ويحمّل السعودية مسؤولية ما يجري في البحرين، رافعاً مستوى المواجهة معها. هو في هذا الخطاب لم يتحدث كقائد للمقاومة ولكن كجزء من منظومة إقليمية تعتبر أن معركتها تمتد من لبنان الى حلب وسوريا الى اليمن فالخليج. هذه المنظومة ترفع شعار المقاومة المغري للرأي العام العربي (ولو أقل بكثير من السابق)، لكنها تقدم الإسلام على العروبة وتجعل ايران في الصدارة، كما أنها تضع بعض دول الخليج (وبعدهم تركيا لاعتبارات العلاقة الايرانية معها حتماً) في مقدمة من تنبغي محاربتهم.
لعل هذا بالضبط ما يجعل بعض العروبيين في لبنان والخارج، ينتقدون في بعض الغرف المغلقة هذا «الانزياح» عن الالتزام الوحيد بخط المقاومة. هم يطالبون بعودة خطاب نصرالله الى موقعه الطبيعي فقط، أي مقاومة إسرائيل. والابتعاد (نصرالله شخصيا على الأقل)، عن الغرق في متاهات خطاب يغرق أكثر فأكثر في حروب إقليمية وربما يؤثر سلبيا على العمق العربي للمقاومة. وهنا يطرح السؤال: اذا تصالحت ايران والسعودية غدا، فماذا سيقول نصرالله؟ أما هو، فيبدو من خلال تبريرات خطاباته أنه صار يرى المعركة واحدة ضد السعودية وإسرائيل والإرهاب. وهذا يعني أن المعركة طويلة وشرسة.
صحيفة السفير اللبنانية