نوافذ للحوار التأثر لا يعني التقليد فهو يساهم في تفجير التجربة الشخصية خالد المعالي: تخلصتُ من البلاغة الزائدة والتأمل ميزة قصائدي

 حاوره: اسكندر حبش

«أنا من أرض كلكامش»، عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر العراقي خالد المعالي (منشورات الجمل)، وفيها يتابع رحلته في استنطاق الذاكرة والبحث عن المكان الأول، الذي غاب عنه لعقود طويلة، وكأن الكتابة هنا تدخل عميقا في الذاكرة لتكتب الألم والغياب والرحيل والموت.
حول مجموعته الجديدة، هذا الحوار:

[ لا أعرف لماذا أشعر بأن كتابتك الشعرية تنحو مؤخراً إلى كتابة سيرة ذاتية، إذا جاز القول، هل يمكن للشعر أن ينبع من هذا الحيّز؟
ـ لمَ لا، ففي الشعر دائما، لا يمكننا إلا أن نكون فردانيين، ويصعب أن تكون القصيدة حقيقية إذا استعارت تجربة أخرى. القصيدة يمكن أن تضع التجربة الأخرى كقناع فقط وكلّ التفاصيل المضافة إليها ما هي إلا حجج لكي نكتب عمّا عشناه.

[ من أين تنبع التجربة عندك إذا، من المعيش فقط أم ثمة إضافات أخرى عليه؟
ـ ببساطة هي تنبع من هذا وذاك، فالشاعر شأنه شأن المغني الذي يلجأ أحيانا إلى استعمال الآلة الموسيقية.

[ ما أردت قوله، في العمق، إنه على الرغم من تجربتك الحياتية الطويلة مع الثقافة الألمانية، وبالرغم من ترجمتك للعديد من الشعراء هناك، يبدو شعرك كأنه يفترق عنه، بمعنى لا تحاول كثيراً الاقتراب من الأفكار المجردة فقط، بل ثمة مكان آخر تنبع منه القصيدة، وبالطبع لا أقصد أن عليك تقليد ذاك الشعر، لكني أجده غائبا أو بالأحرى كأنك تريد تغييبه؟
أولا أنا قدمت من لغة أخرى، من بيئة أخرى، والتراكم الذي كان عندي حينما وصلت إلى ألمانيا كان يسمح لي ببعض «القرمزة» وكلّ ما عشته وعايشته في ألمانيا خلال الثلاثين عاما الماضية أغنى تجربتي بشكل وافر وجعل قصيدتي بسيطة واضحة موجزة وهذا برأيي انجاز كبير. فالتأثر لا يعني التقليد أو محاكاة الآخر وإنما يساهم هذا التأثر في تفجير مكامن التجربة الشخصية.
أيضا أنا على عكس الكثيرين من الشعراء الألمان الذين ترجمت لهم، مثل غوتفريد بن، فأنا لم أجدني قريبا من التجريد أو محاكاة الأشكال الشعرية، التي انتشرت في القرن الماضي في ألمانيا، فكلّما كرت السنوات تخلصت من البلاغة الزائدة، ووجدت نفسي أنحت الجمل القصيرة وأكتفي بأسطر قليلة حينما تتطلب التجربة ذلك. التأمل ربما هو الميزة الأبرز لقصائدي في السنين العشرين الأخيرة، ومصدر هذا كما تعرف الأصوات الشعرية الألمانية وخلفها الفلاسفة الكبار.

أرض كلكامش

[ هو أيضا تأمل في شرطك الإنساني، إذ لم تتوقف مؤخراً عن العودة إلى الأرض الأولى، مسقط الرأس، وكأن العراق هو الإطار العام، وهذا ما نجده في مجموعتك الأخيرة هذه، بدءا من العنوان «أنا من أرض كلكامش»؟
ـ اللغة والجغرافيا مكونان أساسيان من مكونات الشاعر كما أعتقد، وهو يعمل انطلاقاً من المعطيات التي يستطيع أن يستلهمها من الاثنين. قد يبدو حضور كلكامش وأرضه هنا مجرد إشارة جغرافية محض وبالطبع هي كذلك، فحيث عشت سنوات الطفولة والصبا راعيا للأغنام وتلميذاً في مدرسة ريفية كنت أسير في أرض كلكامش، أي أنني حينما أكتب وكأني أنقل من دفتر مفتوح. لكن هذا الدفتر احتاج إلى سنين طويلة حتى انفتح أمامي.

[هل هو دفتر الذاكرة؟
ـ بالتأكيد هو الدفتر الذي ندعوه بالذاكرة لكنه لم يبدأ بالاتضاح أو البروز إلا عام 2002 ـ 2003، حينما بدا واضحا أنني سأرى عمّا قريب البلاد التي جئت منها، والتي كنت أخزنها صورا وأغاني ومشاهد في مخيلتي طيلة 25 سنة التي سبقت التاريخ المذكور أعلاه.
أن تسير بأثقال غير مرئية أمر ربما لا يستطيع أحد أن يتصور مدى ثقله إلا من عاش هذا النفي.

[ سؤال اعتراضي، ما الذي يعنيه لك كلكامش؟
ـ ربما يختصر كلكامش مفاهيم كالعالم الرعوي، المدينة، الصداقة، التمرد، اكتشاف العالم ومحاولة «الوصول إلى مدينة أين» (فيما لو استعرنا عبارة سركون بولص) لكنه اكتشف أن «أيام البشر معدودات والحياة لا تدوم إلى الأبد».

[ أيضا تقترب من شعرك الأخير، من نوع من اليوميات. ثمة أماكن عديدة كتبت فيها القصائد، لكن خيطا واحدا يجمعها، لنقل إنه المكان الداخلي، لا الجغرافي؟
ـ معك حق، فالشاعر مثلي يستخدم الجغرافيا الخارجية أينما حلّ، من أجل استنطاق العوالم الجوانية التي هي كل لحمه ودمه.
لكن هذه الجغرافية الداخلية، التي تشي بها قصائد المجموعة، تبدو كأنها تندثر في الراهن، تقول في إحدى القصائد (ها نحن «ذكرى») بالتأكيد، فالشاعر الرائي يبصر وينذر أيضا وبمناسبة ذكرك هذه القصيدة فهي قصيدة قناع والقناع هنا هو المغنية التونسية القتيلة ذكرى، لا أعرف كيف تداخل قناعا ذات مساء في خيالي، فأنا قلّما أستعير أقنعة لم تكن لي علاقة شغف أو عداء بها. لكن حادث قتلها ربما هو الذي جعل الأمر ممكنا من دون أن أنسى أنني كنت أستعمل أو أعيد استعمال كلمة كثيرة الورود في قصائدي وهي الذكرى.

[ ربما هو قناع الموت والرحيل والغياب، الذي تعيد التفكير فيه؟
ـ بكل تأكيد فنحن اليوم نعيش وكأن الموت ـ على الأقل في التفكير الجواني ـ فرد من العائلة.

[ تقصد بمعنى التآخي؟ وهل يمكن للكتابة بهذا المعنى أن تواجهه؟
ـ نعم، الموت الآن لم يعد خطرا أو أمرا مزعجا فقد استسلمنا منذ سنوات لهذا الأمر. نحن الآن ننجز ما نستطيع أو ما نعتقد أننا يجب أن ننجزه قبل العبور إلى «العالم الذي لا رجعة منه»، حسب ملحمة كلكامش. وبمناسبة ذكر هذه الملحمة وكلكامش، فقد كنت في الصيف الماضي في «أوروك» وهناك وقفت في معبد «آنو»، ونظرت إلى أسفل حيث المتاهة التي كانت تعتبر هي العالم السفلي، والتي كانت عشتار تهدد بفتحها إذا لم يستجب لها أبوها أثناء صراعها ضد كلكامش، وإذا بهذا العالم السفلي حسب التفكير المنطقي ما هو إلا ما ندعوه بالسجن.

[ مجموعتك هذه تصدر عن دار نشرك لماذا؟
ـ في ألمانيا يعتبر نشر الكاتب الذي يعمل في دار نشر له علاقة زواج بالناشر أو الناشرة، من المعيب جدا أن ينشر كتبه في الدار ذاتها، فمثلا الناشر الألماني ميشال كروغر وهو شاعر وروائي وناشر، لا تنشر كتبه بتاتاً في دار «هانزر» التي يديرها، ذلك أن الانتشار الحقيقي لكتاباته يجب أن يتم بشفافية كاملة. وقد حاولت أن يقوم ناشر عربي بنشر كتبي وترجماتي، لكني دائما أقابل بالسؤال الاستنكاري لماذا لا تنشرها عندك، وبالطبع في أحسن الأحوال كانوا يريدون أن أدفع مقابلا. فقل لي ما العمل؟

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى