نوافذ للحوار| الحروب لا تخيف بل الرماد الذي ينتج عنها واسيني الأعرج: أكره التراكيب المعقدة (حاوره: سارة ضاهر)

 

حاوره: سارة ضاهر


قضايا عدّة تستوقفك لدى معرفتك الروائي الجزائري واسيني الأعرج وكلها ثقافي بامتياز: رواية «أصابع لوليتا» تنال جائزة «الإبداع العربي». إصدار رواية جديدة «مملكة النحل» التي تتناول الحرب الأهلية في الجزائر بين عامَي 1992 و2002. ثالثاً حضور الكاتب إلى بيروت لمناسبة معرض بيروت الدولي للكتاب 2013، لتوقيع روايته الجديدة «مملكة الفراشة» ثلاثة أسباب، تبدو للوهلة الأولى ممتازة لإجراء حوار مع الكاتب. لكنّ المميّز أكثر هو الروائي نفسه. واسيني الأعرج الإنسان. المثقف. العميق.
ثلاثة عقود وأكثر، أمضاها الكاتب الجزائري في كتابة الرواية. رواية تلو الأخرى، وجائزة تبشّر بأخرى. لكنّ واسيني الأعرج يرى أنّ: «الجوائز هي حوادث عرضيّة، بمعنى أنّ الكاتب وهو يعتمد مساراً معيناً في الكتابة والأفكار والخيارات، ويلتزم بهذا الخط في الكتابة… يربح جائزة، فيقف قليلا ويتأمّل. ولكنه يدرك في نهاية المطاف، أنّ فرحة الربح هي مجرد لحظة وتمضي، وبالتالي فالمهم هو الكتابة وليس الجائزة. وإن كانت الجائزة مهمة كونها تمنح النص فرصة أن يحيا من جديد، وتضعه مرّة أخرى في المسار. وهذه هي قيمة الجوائز للنصوص التي تمنح لها. وتعطي للكاتب نوعاً من الثقة أنّ ما يكتبه مقروء، سواء بالنسبة للقارئ البسيط أو القارئ المحترِف أي الناقد. ولكن يجب ألا تتحول الجوائز إلى حالة أساسية في حياة الكاتب. بل عليه دائماً أن يراهن على شيء ما في داخله.

÷ على ماذا تراهن أنت؟

} أنا أراهن على شيء واحد هو أن أصل إلى قارئي. وأن أصل إلى قارئي بأنبل الوسائل وأجملها. لذلك أحاول أن أمنح قارئي ولو لحظة سعادة داخل المأساة التي نعيشها. عندما يدخل القارئ في لحظة السعادة هذه، ويتمكّن من الدخول إلى المساحة المشتركة بينه وبين الكاتب. أكون قد حقّقت هدفي.

÷ تتناول في روايتك الأخيرة الحرب الأهليّة في الجزائر، وتطرح، بأسلوب غير مباشر، الدمار الذي تعيشه الشخصيات وأثر الحرب في نفوسهم…

} الحروب الأهليه حروب مدمرة، ولكن المدمّر أكثر، في رأيي، هو الرماد الذي تخلّفه هذه الحروب الأهلية. المواطنون هم أحباب وجيران وأصدقاء من طوائف مختلفة. فجأة يفقدون الثقة ببعضهم بعضاً ويتبادلون الاتهامات، ومن الممكن أن تكون القضية قد نشأت كلها نتيجة سوء تفاهم. ويبدأ كل طرف بإسقاط كل الأخطاء على الطرف الآخر. فتنشأ الأحقاد القاتلة والمميتة. لذلك، أنا أعمل على هذه المساحة من إحساس الإنسان، وأشعِره أنّ عليه أن يتجاوز هذه الحالة، للدخول إلى إنسانية الإنسان، طالما أنّ نتيجة الحروب هي الدمار وتساهم في أن تخفي هذه الإنسانية بل وتعوّضها بأحقاد. ما أريده هو أن يعرف الناس كم أنّ الحياة رائعة وجميلة وأنه محكوم على الانسان التواؤم، الاتصال، اللقاء والتشاور.

÷ العالم العربي لا يزال تحت وطأة الحروب. برأيك ما هو الرماد الذي ستخلّفه في نفوس الناس؟

} مع الأسف، إنها المرّة الأولى التي أشعر فيها باليأس والإحباط. أنا عشت حرباً أهلية في الجزائر ولم أصَب بيأس لسبب بسيط أنّ الجزائريين كانوا يدركون أنّ البلد هو واحد. كان هناك إجماع وطني على هذه المسألة. حتى المتحاربون كانوا متفقين أن ليس لديهم بلد آخر إلا الجزائر. يتقاتلون ويتصالحون على الأرض نفسها. ما يحدث الآن في الوطن العربي أخطر من ذلك. أنا بالتأكيد ضد الدكتاتوريات التي آلَمت شعوبها ودمّرتها «لتذهب في ستين داهية». لكنني لست موافقاً على طريقة النهايات، كنهاية القذافي أو صدام حسين… بالعكس هذا السلوك يعطي انطباعاً عن أنّ العرب همجيون ولا يؤمنون بالنظام… فمَن يريد أن يبني مجتمعاً جديداً عليه أن يبنيه وفق قانون محدّد ناشراً العدل والمحبة بين الناس، ليثبت أنه يحمل مشروعا إنسانياً جديداً. مهما كان الزعماء سيئين، كان يجب إنشاء محاكمات احتراما لإنسانيّة الإنسان. هذه البلدان العربية هي بصدد الانفجار الداخلي… وأنا أتوقع، بعد سنتين، أن أرى سوريا أخرى.

÷ ماذا تقصد بسوريا أخرى؟

} أرى خريطة أخرى ترتسم: في الشمال خريطة كرديّة، وإن كانت تركيا لن تقبل بها بسهولة. كما أرى شريطاً ساحلياً علوياً. ومجموعة سنيّة ستموضع نفسها وتتدبّر أمرها. كما نشهد الآن في العراق شمالا كردياً، وهي منطقة، تقريباً دولة، لها حاكمها الخاص. كذلك أرى اقتتالاً سنياً شيعياً… إضافة إلى الخريطة المرعبة لليبيا، التي نشرت مؤخراً، وهي خريطة خطيرة ومخيفة، نشرتها وكالة المخابرات الأميركية CIA. إذاً ما يخيفني في الوطن العربي ليست الحروب وإنما الرماد الذين سينتج عن هذه الحروب وهو رماد أخطر ومرعب لأنه رماد (وطن ) وليس رماد مجموعات بشرية. بل رماد أوطان كانت تسمّى سوريا وليبيا والعراق.. وإلى غير ذلك. هي تشبه آلة تسير لا أدري إن كانت لدينا إمكانات لتوقيفها وللحدّ من هذه المخاطِر. نتحدّث هنا عن الجهات المعنيّة الصراع. فكل الفرق المتقاتلة لا ترى أنّ تحت الأرض التي يتقاتلون عليها زلزالاً هائلاً يشرخ الأرض شرخاً! وهم لا ينظرون إلى الأرض. بل كل ما يهمّ كل طرف في الحرب، هو كيف يقتل الطرف الآخر. أنا بصراحة أرى أنّ على هؤلاء أن يتأمّلوا جيداً وإلا سيفتحون أعينهم على دمار شامل لا يستفيد منه لا نظام ولا معارضة.

فلسطين

÷ ذكرت في روايتك الشهيرة «طوق الياسمين» الصادرة عام 1981، أنّ «فلسطين حتى وهي بعيدة، تمنحنا الكثير من الدفء». وبعد ثلاثة عقود اخترت أن تطلق روايتك الجديدة «مملكة الفراشة» من أرض فلسطين. وتقول إنّ فلسطين هي حالة وجدانيّة إلى جانب كونها حالة عربية وقومية. وكان لديك موقف من الذهاب إلى فلسطين فـ«تريثت» قبل قبول الدعوة، ثم قبلت وذهبت. أودّ أن أسألك عن موقفك هذا.

} صحيح. أولا دعيت إلى فلسطين المحتلة قبل ست أو سبع سنوات من طرف مجموعة من كتاب كبار، يؤمنون بما يؤمن به الفلسطينيون. على الأقل على الصعيد الرسمي، وهو تقسيم البلد إلى منطقتين الضفة الغربية وغزة… ونظموا اللقاء في تل أبيب. لكنني لم أذهب. لم أذهب لأسباب كثيرة. السبب الأول سياسي، وهو أنه لا يوجد رضى فلسطيني على هذا التقسيم، بمعنى لا يوجد تقسيم حقيقيّ. السبب الثاني وجداني، أنا مكوّن بوجدان عربي، قومي وإنساني… لا أستطيع أن أذهب إلى دولة ظالمة، بغض النظر عن موقفي القومي والإنساني، ولكن هناك ظلماً حقيقياً لشعب بكامله، انتُزع من أرضه وهجّر. كذلك تردّدت في الذهاب نظراً لمسألة التطبيع، التي قد أتهم بها. تحدّثت مع الأصدقاء الفلسطينيين مطوّلا، ومع مدير «متحف درويش» وأعضاء مكتبه الجهة المنظمة. فوجدت أنه «من واجبي» أن أذهب وأزور فلسطين. شعرت أنني أذهب لأزور أخاً في سجنه، وإن كان هذا السجن على أرض العدو، أو أنّ العدو مستول على هذه الأرض. ولكن، على الأقل، أتمكّن من أن أزور أخي. وأنا ماذا سـ«أطبّع»؟ اقتنعت. واتخذت قراري بالذهاب. قلت فليكن ما يكون، الناس أحرار في ما يقولون ويحكمون. أنا مرتاح مع ضميري ومع نفسي.

÷ كيف كانت الزيارة ؟

} في الحقيقة جماعة «متحف محمود درويش» رتبوا كلّ شيء، بحيث لا يكون هناك أي إزعاج. فأمّنوا وثيقة مرور، وكذلك جواز السفر لا يحتاج إلى ختم… كل شيء تمّ بشكل جيّد.

÷ كيف وجدت الداخل الفلسطيني؟

} عندما دخلت «الضفة الغربية» حزنت. لأنه كانت لديّ صورة أخرى عنها، على الرغم من أنني كنت أقرأ وأتابع التطوّرات الجارية هناك. لم أتخيّل أنّ الإسرائيليين أقاموا حواجزهم حتى في وسط رام الله! قد نتقبّل الحاجز عند مدخل المدينة. ولكن عند كل خطوة أو خطوتين هناك حاجز! الأمر مؤلم حقاً. إضافة إلى كون المنطقة مخترقة من قبَل آلاف المستعمرات الإسرائيليّة. ذهبنا من «رام الله» إلى «نابلس»، على مسافة ساعتين أو ثلاث ساعات بالسيارة… «والله قلبي وجعني»! على طول الطريق نلمح لوحات مكتوب عليها «ممنوع» أو «غير مسموح»، طبعاً المقصود هم الفلسطينيون. في حين أنّ الطرق مسموح العبور عليها للإسرائيليين فقط! كل دقيقة هناك حاجز، وكل حاجز يريد مستندات ووثائق، طبعاً الوضع أصعب بالنسبة للفلسطينيين، فحزنت. وحزنت أكثر عند معبر «قلنديا» الذي يتيح المرور إلى القدس.

÷ ما هو الأسوأ هناك؟

} لم أصدّق نفسي! الحائط «الجهنمي». حائط قسّم المدينة إلى أطراف. طفل صغير يسكن في مكان، في حين أنّ مدرسته تقع في الطرف الآخر. كل يوم يحتاج أن يكون الساعة السابعة صباحاً في مدرسته، فعليه أن يعبر الحواجز كلّها! حالة خرافيّة لا يتصوّرها العقل! والسينما العربيّة مقصّرة من هذه الناحية. على الكتاب السينمائيين أن يكتبوا، وأن يكتبوا بقوّة عن هذا الموضوع. لأنّ الشحنة والإحساس عاليان. وهناك سمعت بأذني توجيه الإهانات للفلسطينيين وكأنهم أغنام. عليهم انتظار الحارس ليدعهم يمرّون، وهذا الحارس قد يأتي وقد لا يأتي! حالات استفزاز منفرة! وفي المقابل هناك ردّة فعل الفلسطينيين، فتستمع إلى تبادل الشتائم من الطرفين. نتيجة للوضع القائم لا يمكن أن يكون الإنسان الفلسطيني في سلام. يستفزونهم عن قصد. على الأقل أن يكون هناك احترام لمرور الناس. كل هذه الأمور آلمتني كثيراً.

÷ هل انعكست هذه الأجواء على مناسبة إطلاق رواية «مملكة النحل» من فلسطين؟

} كلا. كانت اللقاءات مع الفلسطينيين ممتازة. وكنت مسروراً. أولا، غمرني الفلسطينيون بمحبتهم، ولمست أنهم قارئون ومتابعون ممتازون برغم ظروفهم. وعندما ذهبت إلى «نابلس» كان اللقاء من أجمل اللقاءات. كان جمهور لا يُنسى. يعطي الإحساس بأنّ الدنيا بخير. ما دام الناس يقرأون، وما دام الناس يسألون، وعندهم قضاياهم في دواخلهم، ويتحلّون بدرجة عليا من الوعي. فلا خوف على فلسطين بصراحة. من الممكن أن نتكسّر. أن نموت. أن نتعذب. لكنّ هذه القضيّة محمولة في أعماق الناس. وقد زرنا الرئيس الفلسطيني في رام الله وتحاورنا حول قضية فلسطين، وقد أعجبتني جملة قالها. سألته: «رأيت فلسطين ممزّقة ورام الله ممزقّة. ما هذه الحال؟ أين هي الدولة؟ «كان الرجل واضحاً وواقعياً، قال لي: «الحال كما ترى» ثمّ أضاف «سنة 1948 ارتكبنا خطأ حين خرجنا من فلسطين. الآن لا نخرج من بلدنا. فليقتلونا، نحن باقون ولو بتقطيع الأوصال». أعجبتني هذه العبارة، وهي الحد الأدنى من المقاومة، أنت عندما تخسر كل شيء. تخسر النصير. العلاقات الدولية غير متوازنة. العرب حالهم أسوأ. ماذا يبقى أمام الفلسطيني؟ أن يقاتل؟ ليست له قدرة على القتال. ولكن بإمكانه أن»يقاتل سلميا». «غاندي» لم يكن يملك الوسائل كي يقاتل ولكنه نزل إلى الشارع وهزم بطريقته وروحيّته العالية بريطانيا، وبالفعل خرجت بريطانيا. يستطيع الفلسطينيون أيضاً أن يقوموا بهذا الحد الأدنى من المقاومة. لا أحد يدري كيف تسير التحوّلات العالمية. نرى دولة «الصين» في صعود، الصراعات الدولية بين أوروبا وأميركا… كل هذا بإمكانه أن يخلق أوضاعاً أخرى قد تغيّر ميزان القوى.

÷ تميّزت روايتك الجديدة «مملكة النحل» بجانب إنساني، إذ أعلن متحف محمود درويش في رام الله أن ريع مبيعات الرواية سيذهب لصالح مكتبة «أدب السجون» وهي جزء من مكتبة مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، التي تحوي عدداً كبيراً من كتابات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال…

} من أجمل ما حدث معي. لدى «متحف محمود درويش» في نابلس مشروع لطباعة أعمال الكتّاب والصحافيين الأسرى، أي أن يكتبوا شهاداتهم وهم في السجن. جميل جداً أن يعبّر الأسير عن إحساسه ومشاكله وحياته. فقرّرت أن أتنازل عن حقوق «مملكة الفراشة» حتى يتمكّنوا بمردودها من أن يطبعوا كتباً للأسرى. وقد فرحت أنه بواسطة هذا الريع تمكّنوا من نشر كتابين. وأنا يوم تسلّمت الجائزة في دبي قلت إنّ جزءا من هذه الجائزة سيذهب لمرضى السرطان والجزء الآخر سيذهب إلى الكتّاب الأسرى.

÷ يحمل مفهوم الكتابة بعداً إنسانياً لديك…

} الكتابة سخاء. عندما أكتب أشعر أنّ ربحي الأساسي هو الجمهور، الكتابة، وكذلك العلاقات. حتى أنّ لبعض العلاقات من الجمال ما لم أكن لأتصوّر أنها بسبب الكتابة. ولكن في المقابل أنا لديّ عملي الجامعي. ومكتفٍ مادياً. عندما أحصل على جائزة أقول إنّ عليّ أن أفكّر في الآخرين ولو رمزيّاً. هذه المبادرة قد تمنح الناس شيئاً من الفرح، من الأمل… فالكتابة تضيء عليك ككاتِب، وفي المقابل أنت يجب أن تحوّل هذا الضوء نحو الآخرين حتى تساعدهم وترى المجتمع من خلالهم.

÷ عندما يكتب الروائي عن المجتمع، ويلتقي في كتابته عالم الواقع بعالم التاريخ مع عالم الرواية. ألا يكون الكاتب أمام مسؤوليّة تاريخيّة كونه يسعى إلى تمرير بعض القيم والأفكار… ؟

} يجب أن نتفق منذ البداية أنّ الكاتب ليس مؤرّخاً وليس عالِم اجتماع وليس عالِم نفس. وقد يجمع كل هؤلاء. لكن في الوقت نفسه، لهذا الكاتب حساسيّة عليا تجاه ما يراه، ويجوز أنّ ما يراه الكاتب قد لا يراه الإنسان العادي. فليس ضرورياً إنشاء روايات كبيرة من خلال القضايا الكبيرة. أحيانا موضوع صغير ينشئ عالماً كبيراً. فالقارئ يجب أن يحب القصة ويشعر بأنها قريبة منه وتعبّر عنه. وأنا أعتقد أنّ هنا مكمن الخلل في الأدب العربي أننا عندما نتناول قضية سياسية أو اجتماعية نغرق في السياسي أو نغرق في الاجتماعي على الرغم من قيمتهما، ولكن يجب أن نمنح القارئ قصّة متخيّلة يشعر أنّ هذه القصة فيها شيء يشبهه، وفيها شيء يحبّه ويريده وإلا فقدنا جسر القراءة بين الكاتب والمتلقي، وهذا الجسر هو الأساس.

÷ ما هو العنصر الروائي «الأساس» الذي تسعى للحفاظ عليه في كل رواياتك؟

} أعمل كثيراً على فكرة «التسامح» بين البشر لأنني أؤمن أنّ هذا العالم المعقّد سواء من الناس، من الأفكار، أو من الصراعات لا سبيل له سوى التوحّد والتسامح. نحن لنا أوهامنا. وعندما نكتب نحطّم هذا الوهم، وندفع الإنسان كي يرى هذه الحياة بصعوبتها وكذلك بجماليّتها. وأنا أعتقد أنّ حوار الحضارات يبدأ من الأشياء الصغيرة. «التسامح» هو قضية كبيرة وليست سهلة: تسامح بين الأديان، الطوائف، الناس، المحبّين. وإلا تتحوّل الحياة إلى جحيم. كما أدعو إلى تحفيز القارئ على الدفاع عن قيمة الحب. لأنّ الحب ذو قيمة عليا.

÷ ماذا عن تقنيات الرواية «الأهم» بالنسبة لديك؟

} العناصر التقنية معقدة. لدينا مثلا تقنيات السرد المباشر، مستوى القصّ… إذ بحسب نوع القصة قد تتطلّب منك عدم الدخول في تقنيات سردية متطورة، وذلك بهدف أن تصل مباشرة إلى القارئ. حتى الشخصية الراوية يجب أن يكون سردها بسيطاً، خاصّة عندما يكون تكوينها بسيط. مثل شخصية «ياما» في «مملكة الفراشة» التي تحاول أن تفتح باب البيت، لكنها لا تستطيع، وذلك يدل على حالة الخوف التي تعيشها البطلة. ثمّ يدخل القارئ ليتعرّف إلى البيت، ومنه إلى حياتها، والدتها، والدها… وهكذا يتم نسج الحياة والمجتمع في وقت لاحق. لكن ما هو أساسي في كل هذا هو اللغة. فالكاتب لا يمكنه العبور إلى القارئ بـ«لغة خشبيّة». أنا أكره التراكيب المعقّدة. يجب أن نجعل القارئ يشعر بأنّ لهذه الجمل وقعاً جميلاً في قلبه. أو أنه أحبّ جملة معينة. فعندما يبلغ القارئ هذا الشعور يكون الكاتب قد نجح في إيصال ما أراد إيصاله. إلى جانب اللغة، أذكر أهميّة المكان ورمزيّته. فـ«الجسر» في الرواية نفسها، هذا الجسر الذي يربط الشمال بالجنوب. فللمكان رمزيّة عالية ويجب أن يستمرّ. ولهذا تمّ الحفاظ على هذا الجسر على طول الرواية. ويعتمد الأمر هنا على القارئ. فالقراءة مستويات. من الممكن أن يقرأ أحدهم قراءة أولى وبسيطة، ولكن من الممكن أيضاً أن يقرأ آخر قراءة ثانية عميقة ونقدية، ليرى أنّ الجسر هو صلة وصل الشمال بالجنوب. ويجب المحافظة على هذا التواصل من خلال هذا الجسر. لذلك نجد أبطال الرواية، رغم خطر الموت، يعبرون الجسر ويذهبون إلى الناحية الثانية. بل أكثر من ذلك رفضت البطلة «ياما» العالم المتخيّل وقرّرت الوقوف مجدّدا والعودة إلى الواقع والذهاب إلى صديقها.

الربيع العربي

÷ يقال إنك استشرفت الربيع العربي في روايتك «جمهورية أرابيا» وهي النسخة المجدّدة أو المفكّكة لرواية «الليلة السابعة بعد الألف». هل ترى نفسك مستشرفاً؟

} في الأصل إنّ رواية «الليلة السابعة بعد الألف» تنقض رواية «ألف ليلة وليلة». وبدل من أن أسمح لشهرزاد بأن تحكي عن الرفاه في العصر العباسي. شعرت أنني أريد شيئاً آخر. فذهبت إلى شخصيّة «دنيازاد» وهي شقيقة «شهرزاد». «دنيازاد» لم تكن تصدّق شقيقتها عندما كانت تحكي، وكان لها رأي آخر. أضفت ست ليال لـ«ألف ليلة وليلة»، وتركت دنيازاد تحكي الحقائق التاريخية، كما هي. تحدّثت عمّا كان يجري: الاقتتال، الجرائم، الثورات… وهي مسألة تاريخيّة تماماً. هنا انتهت الرواية. لكني في النسخة الثانية التي بدأت بكتابتها أو بالأصح تفكيكها عام 1993، ربطتها بالأوضاع الراهنة. فنرى شخصيّة الديكتاتور وهو على فراش الموت ويصرّ أن يبقى في مكانه. كذلك الحركات الشعبية. عندما كنت على وشك الانتهاء من كتابتها عام 2011، كان بدء اندلاع الثورة في تونس. وهو ليس استشرافاً. فكل مجتمع فيه ظلم، ويهدر سياسيّوه حقوق المواطن سينتهي إلى خراب. يعلّمنا تاريخ البشرية أنّ هذه هي النهاية الطبيعيّة لكل ظالم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى