نوافذ للحوار| السينما الحقيقية ترتبط بالغنى الروحي
كان ولا يزال يؤمن بأن السينما مكان قدسي، ومبرر أساسي لوجوده في الحياة، وأن صورها تكتنز قوة جمالية وتعبيرية وإنسانية عالية. يرفض أن يكون عمله كسينمائي مثل مَنْ يُسَّوق سلعة. وهو على رغم الثمن الفادح نجح في أن يحمي نفسه من ضجيج وأوهام الشهرة، ومن الفساد. طالت فترات الغياب، وتباعدت المسافة الزمنية بين الفيلم والآخر. هو أسامة محمد، المخرج السوري الذي تنتمي أعماله السينمائية إلى التاريخ الإنساني لبلده. كان هذا اللقاء معه عقب واحد من عروض فيلمه الأخير «ماء الفضة» حيث بدأ الحوار بالإشارة إلى هذا التناقض بين التصفيق للفيلم والإعجاب به من ناحية، ووقع تلك المأساة التي يعرضها أمامنا من ناحية ثانية، أي عن التناقض بين إحساس الفنان بالمتعة عندما يصنع مشهداً حلواً سينمائياً، بينما هو يحكي عن وضع مؤلم؟
– الإجابة بالتأكيد متعددة الطبقات، الإجابة الأبسط والأقرب تتعلق بفكرة أنك تحقق إنسانيتك. كيف لك أن تحقق إنسانيتك بمعزل عن الآخرين؟ في حالة سورية، ليس فقط منذ 2011، بل قبل. لكن 2011 تبدو ذات رنة قوية داخل السوريين. السؤال بالنسبة للسوريين يصبح إيقاعه الزمني مختلفاً تماماً: كيف لك أن تكون حراً، أو أن تشعر أو تحقق إنسانيتك بمعزل عن الآخر؟ هنا تختلف ألوان الكلمات ويصير الدم موجوداً فيها، لأنك وأنت تتلفظ في مخيلتك بكلمة الآخر فإن هذا الآخر يفقد قتيلاً في الشارع. هذا الآخر بالأمس لم يكن موجوداً على خريطة معرفتك أو حياتك اليومية أو تقاطعات أفكارك، ولا كنت حتى تعرف اسمه، كان شخصاً مجهولاً، واكتشفت فجأة أن الدنيا تفصح عن حقيقتها، وأن هؤلاء هم من يقفون في الصفوف الأولى من أجل إضاءة كلمة الحرية بدلاً من الإذلال الذي لحق بها بسبب تنامي بنيان الفساد الفاشي. في لحظة نادرة واستثنائية تكتشف الآخر فتعيد طرح الأسئلة، في أي مكان أنت؟ في أي مجتمع؟ وما هي سورية؟ أكيد عندما تكون مادة الفيلم أو لقطاته أو الجسد البصري السمعي للفيلم مكونة من نتف من حياة هؤلاء السوريين الذين ربما غادر الكثير منهم، وربما بقي، لا بد أن الأحاسيس تكتشف في نفسها أماكن أخرى. فالسعادة بالدرجة الأولى في إدراك أنك ربما تكون أسهمت في إنقاذ حكاية الضحية بدلاً من دفنها، السعادة في مكانها الأناني لا شك وهنا تشعر بأنك تستعيد إنسانيتك بعض الشيء لأنك لست مفصولاً عن الذات.
تحرير المخيلة
> هذا عنك كمبدع، فماذا عن المتلقي الذي يصفق وهو يتألم أو ربما تتساقط دموعه؟ كيف يصفق المرء بعد فيلم كهذا؟ ولماذا يصفق؟
– كيف تكون المتعة في ما يوحي بأنه نقيضها؟ المتعة لا تأتي أبداً من المستوى الأول، لا من القراءة ولا من التفكير. إنها تحتاج إلى اعتراف. أنا برأيي هذا هو المكان الوجودي الفردي، شعورك بأنك تحرر مخيلتك، أن مخيلتك تُحررك في الوقت نفسه، وأنك تشعر بملمس سعادة أن تكون حراً. الحقيقة أن الشعور بتحقيق الذات – ليس تحقيق الذات بالمعنى النمطي – هو الشعور بمتعة أن تكون كائناً إنسانياً، وهذا يتحقق أحياناً عندما تستطيع ذلك في شرط توحي مقدماته أن حدوده مسقوفة، وتكتشف أن السينما – لأسباب شتى منها أن اللغة البصرية لغة لا يمكن الإحاطة بحدودها ولا بإشارتها ولا بمستوى الكثافة وتعدد الدلالات الموجودة فيها – تمنحك هذا الإحساس المزدوج بأنك موجود وأن الوجود يتيح لك هذا السنتيمتر لتكون داخله، وتشعر بأن حقيقتك الداخلية تلمس اللحظة التي تقول إنك كفرد، جزء من الآخر أو تُكوَّن مع الآخر لحظة جديدة في اقتراح حر سينمائي.
> منع فيلمك «نجوم النهار» في سورية، وأنت حين تتحدث عنه تصفه «بالخديعة الأولى» فهل السيناريو الذي عرضته على الرقابة أجريت عليه تعديلات أثناء التصوير، أم أنهم لم يتخيلوا الشكل النهائي للفيلم؟
– أعتقد لم تكن هناك خديعة بهذا المعنى، أي أنني لم أقدم نصاً، ثم ذهبت وصورت غيره…
> لكن في أحيان كثيرة تكون الصور، وتتابعها في سياق معين أقوى من الكلام المنطوق والسيناريو المكتوب.
– تماماً. هذا هو الفارق بين الكتابة البصرية وبين ما يمكن للبعض من دون البعض الآخر أن يحد هذه الكتابة وفق مخيلته، فهنا فيلم مختلف عما تكتنفه الكتابة نفسها. واحدة من تمارين متعتي الشخصية والتي أهرب بها وإليها في الفترات الطويلة التي لا أنجز بها أفلاماً هي الكتابة، ومحاولة الكتابة التي ربما تكون أقرب إلى البصرية، كتابة بصرية. لحسن الحظ أحياناً تتوافر اللحظة حين لا يستطيع الآخر – في مكان الرقابة على المستوى الأول من الرقابة – أن يقول لا، ولا حتى أن يقول نعم، بل يتردد، إذ لا توجد مفاتيح يستطيع أن يتمترس بها ليمنع ما هو مكتوب. الكتابة الأولى للسيناريو كما هي، لكن الكتابة الأولى بالنسبة لي مهما بلغته من ذروة لا تكون أكثر من مفاتيح للمخيلة في لحظة بناء الفيلم، لحظة البناء السمعي البصري لهذا العالم.
> وأنت بعد تجربة «نجوم النهار»، وحالة المنع، هل وضعت لنفسك سقفاً؟
– أبداً. بالعكس. كل حوار مثل كل فيلم، وكل فيلم مثل كل حوار هو فسحة مرة أخرى لأن الفرد يحرر نفسه بالحقيقة، وحين يعترف… هل معنى هذا أن في الأمر مرضاً نفسياً؟ ممكن. ربما. لكن متعة أن تجد نفسك أو تتوهم في لحظة يبدو فيها أن هذا مستحيلاً أن تطلق هذه الرنة لا مثيل لها، تحقق سعادة لا مثيل لها… مثل الحب الذي تبحث عنه خلايا المرء طوال حياته. لا يوجد مستحيل، بالعكس، كل ما عليك هو أن تذهب في خطوة أخرى أبعد في علاقتك مع نفسك، وفي محاولتك أن تقول ما يمكن أن يشكل إضافة بسيطة، أو ما يمكن أن يشكل حواراً حقيقياً في النظر لمساحة الزمن الهائل الذي يُشكل الحياة كلياً، أن تستطيع أن تضيف نقطة ماء صغيرة، هذا هو الإغواء الحقيقي. بالطبع نحن نتكلم عن تجربة غير نمطية بمعنى أنك لا تصنع فيلماً كل عام، بين الفيلم والفيلم فترة تقترب من 12 عاماً، أنت تكبر، يتغير العمر، وتتغير الأسئلة، فإذا كنت قد بدأت الحوار مع سعادتك بهذه الطريقة فإن السعادة هي حريتك واعترافك وهي تنمو أيضاً، وكل ما تطلبه منك أن تطور أدواتك ولغتك وأن تدرك أن السينما أيضاً مكانٌ قدسي، مكان للاعتراف.
منطقة الوهم
> أنت فنان لديك مبادئك ومثلك، وضعت لنفسك صورة ترغب في أن يُبقي عليها أسامة محمد ومن أجل ذلك رفضت أن تحول العمل لمهنة ومهارة، ولكن ماذا عن الحالة النفسية أثناء الفترات الطويلة بين كل فيلم وآخر؟
– أسلم الطرق للإجابة هو التأمل في المنطقة الفاصلة أو الواصلة بين الوهم الذي يبنيه المرء عن حياته اليومية وعن الزمن الذي يعيشه بدءاً من أنه يسمي هذه السنوات صموداً مثلاً. ممكن في الوقت نفسه أن يحقق الواحد فيلماً ساخراً عن هذا «الصمود»، عن نفسه، لا يمكن في هذا السياق أن يُصنع فيلم إلا وأن يكون ساخراً، فهو إنسان صامد لا لشيء إلا لأنه لا يفعل شيئاً. شيء ممتع جداً، هذه أحلى الطرق للإجابة، فعلاً هي لا تجيب على كل شيء لكن فيها شيء من الحقيقة. هناك أيضاً الحياة الشخصية وطريقة محاولة النجاة من شروط العيش، ومحاولة النجاة، التطرف في النجاة لأن تكون مرة أخرى «بطلاً» بالعلاقة مع موضوع «الفساد»، وأن تٌنجز فيلمك في الحياة. على أن هناك إمكانية أن تعيش بأدنى شروط العيش من دون أن تقبل أن تكون جزءاً من الفساد، نعم هذا ممكن، حيث تبدأ بالاعتقاد أن هذا بحد ذاته إنجاز على رغم أن الحياة قصيرة وأن قدرتك الأساسية تتعلق بالسينما.
> وهل يبقى المرء سليماً وينجو بالفعل؟
– لا أعتقد أبداً، ربما كنت قاسياً جداً مع نفسي. يبدو لي أنني أردت كما قلت تماماً أن أحافظ على أسامة محمد، موقناً أن الوصول إلى سينما حقيقية ليس موضوعاً تقنياً، بل أمر يتعلق بحقيقتك الروحية، بالغنى الروحي، بمدى سلامة الأحاسيس. وكلمة «سلامة» كلمة إشكالية جداً، كلمة غير صحيحة ولكن، بمدى إتاحة الفرصة للحوار بينك وبين أحاسيسك التي هي أنت، كيف يمكن أن تحول مهاراتك المهنية إلى عملية، إلى تلك الآلية التي تحرر الحواس بلا حدود، وأن تستمع إلى ما تقوله حواسك، الحواس من وجهة نظري والموجودة في «ماء الفضة»، الحواس هي السرعة القصوى لبنيانك وثقافتك ومخيلتك، هذه الحواس هي الطاقة الهائلة لكل ما تمتلكه… بالفترات بين فيلم وآخر كان عندي إيمان كبير أنك في الحفاظ على نفسك أنت تحافظ وتطور كيف تحترم حواسك، وكيف تصبح أنت أنت بشكل أو بآخر، كيف تستطيع أن تنجز ما يشبه البناء الفني والدرامي بالعلاقة مع اقتراحات الحواس، كيف يمكن أن تلتقط إشارات حواسك ثم تعيد العمل عليها كما لو كانت تلك الإشارات مادة خام. هذه هي الفكرة. وخلال سنوات التوقف كنت أكتب نص الفيلم التالي الذي أتمنى عمله، عندما أبدأ الكتابة بعد سنين من التوقف أكتب سنة واثنين وثلاثة أو أربعة، وأعيد الكتابة.
> هذه مكاسب لا يستهان بها، لكن ماذا عن الخسائر؟
– أعتقد أن هذه السنوات تجعل المرء يخسر الكثير أيضاً. أكيد، أحياناً يذهب في فترات تشبه الاكتئاب، وهو يرفض أن يسميها اكتئاباً، لكنها اكتئاب. وربما أحياناً تأخذ من دهليز السخرية الخفي في تكوينه والذي يوماً ما ربما كان أكثر الجوانب وضوحاً في السينما التي صنعت في «نجوم النهار»، فجأة تكتشف أنه بدأ يهبط، أو أن السخرية تذهب نحو جانب لغوي أخرى من السخرية، في الفيلم الثاني السخرية تنحو إلى المرارة أكثر. لم تعد تكتنف هذا الضحك الفاجر الساخر من الذات أو من غيرها، اختلف تماماً، فيه سخرية عميقة ودفينة لكنها اختلفت، أكيد في هذه العملية الكبيرة من تطويع الذات لأجل حمايتها ارتكبت الكثير من العنف تجاه نفسي، ولا يمكن أن يسميها المرء سوى مازوخية بمعنى أو بآخر، لكن حين تبدأ الكتابة والسينما والتصوير تبدأ الفرصة من جديد بتحويل كل هذا إلى مغامرة ترتضيها.
صحيفة الحياة اللندنية