نوافذ للحوار| جيهان عمر: أدق دقاً خفيفاً على باب القصيدة (عناية جابر)

 

عناية جابر

أنا الكاتبة التي قد تكون ضد الكتابة

في جديد الشاعرة المصرية جيهان عمر عن «دار العين» تحت عنوان «أن تسير خلف المرآة» يتضح الصفاء في خوض موضوعة الموت، بعيداً عن الضبابية في التناول، ومستفيدة من الزمن الفاصل بين ديوان وآخر لمصلحة القصيدة ولمصلحة الشعر. من الفقد على المستوى الشخصي تطرح الشاعرة أسئلتها في محاولتها مغادرة ثقله. معها هذا الحديث:

الكتابة مصفاة تماماً في مجموعتك الجديدة؟

^ أن تتصفى.. لا لكي تغدو نبيلا ولا قوياً.. إنما فقط لتكون ذاتك، هكذا يقول بيسوا. وأجدها كلمة تعبر تماما عما حدث معي.. فأنا التي ألجأ الى الكتابة كحل أخير.. كفعل أتحايل على جعل بدائله ممكنة.. احاول الهروب من أفكار ربما تكون صالحة للكتابة من كلمات تريد أن تتأمل حياتها معي فأشيح بوجهي عنها في خجل.

هل عاودت الكتابة بعد طول ممانعة؟

^ أنا الكاتبة التي قد تكون ضد الكتابة.. فقد قلت مرة أن لحظة القصيدة، تلك التي تأخذني من الكون لتذهب بي حيث تريد، تقذف بقلبي في أعماق الجحيم ثم تنتشله قبل أن يتحول إلى رماد، ترسل إشارات محددة وحادّة دقاتها المتوالية والدّؤوبة، تربكني وأنا أقاومها، أرسل إليه إشارات مماثلة، آمره ألاّ يفتح لها، فلنبقَ في حالنا لا نريد منها شيئًا، فلنبقَ أقوى منها، ماذا سيحدث لو رفضنا ما تمليه علينا.
لماذا لا تتركنا نحيا في هدوء كبقية البشر؟ لماذا تختارني أنا؟ أنا التي تبحث عن هدوء تام لا أريد هذه المعارك التي تعدني بها، أقاومها، أجنّد جسدي للصمود، ربما لأنها حرب بعيدة بدأت في الماضي، كنت صغيرة أخاف أن أنهض لأحضر قلمي الصغير كنت أطفئ تلك الشهب كلما مرّت أمامي، أتركها تموت، أخشى أن أرى نفسي على الأوراق، ومن ثم يراني الآخرون، مع الوقت أدمنت هذه الحرب، اللعبة الشرسة التي تتركني منهكة لأنني قتلتها بيدي، انتصرت مؤقتًا، لأنني أرفض ظروفًا مغلقة ترسلها لي السماء كما يقول فاليري، الظروف الرمادية المتفحمة التي لم يستدلّ على عنوانها عادت إلى مرسلها، الصراع الذي أدمنته أعتبره جزءًا من حياتي.
في هذا الديوان فقط اختلف الأمر.. أنا التي كنت أحتاج الى الكتابة خرجت بعدها من تلك الهالة الضبابية التي أحاطتني. كنت كلما كتبت أشعر بأنني أرى أفضل.. وكأن الذهاب الى القصيدة يتطلب هذا الوقت وهذا الصبر.
أنا الآن خفيفة أكثر بعد مرور سنوات على تلك التجربة.. تخلصت من ثقلها بالكتابة وبممارسة الحياة بمفرداتها الجديدة التي قد تتغير يوميا، ولكنْ هناك شيء ثابت خلف كل شيء يؤمن التوازن في النهاية.

من أين مصادر كتابتك هذه المرة؟

^ قصدت تماماً تلك الجملة التي بدأت بها الديوان (لا تبحثوا هنا عن قصيدة)، فالكتابة هذه المرة بدأت من مكان آخر جاءت بالفعل من الاستناد الى شجرة الموت. ربما أستظل بها أو تمنحني وقتا لطرح الأسئلة.. حتى وإن لم أجد اجابات في النهاية.. كان مجرد طرحها.. دقاً خفيفاً على باب القصيدة.

الموت

الموت كما هو واضح في المجموعة، وسواء ذُكرت كلمة موت أو لا، هو مهيمن أساسي؟

^ لم أذكر كلمة الموت كثيرا، ربما لا تتعدى أربع أو خمس مرات.. رغم أن فكرة الموت تسيطر على أجواء الديوان الا اني كنت أبتعد عنها كلما صادفتني أثناء الكتابة. لم تبق فقط الا حينما يحتم السياق وجودها، ولكن رغم عدم تكرارها كمفردة الا ان هناك دائما ما يدل عليها.
الموت يحضرهنا ليس كمفردة بل كحالة ومصير وحقيقة مراوغة.. فأنا أحاوره.. أتلمسه.. أتأمله.. أدنو وأقترب.. أسخر وأبتعد.. أروضه.. أحايله كي استطيع كتابته.. أرفضه فيغضب.. أقبله فيهدأ.. أعتقد أنني لم أفكر في الموت أبدا كما فعلت هنا.

هناك إيجاز مُحيّر أحياناً، وأحياناً لا يُفصح عن قصده؟

^ أحب القصائد القصيرة.. أتخيلها مثل نوافذ صغيرة أفتحــها بيدي.. أتأمل المشهد المتاح أمامي.. ثم أغلقها مرة أخرى.. أو قد أتركها مفتوحة على فراغ.. أحب هكذا أن ألقي نظرة، أفرح حين ألمح طائرا يعبر السماء ثم يختفي عن مجال رؤيتي.. أحب أن ارى الطفل الذي يتحول من البكاء للضحك في أقل من ثانية.. أحب تلك الأشياء التي تحدث في لمح البصر.. هكذا أحب قصيدتي وأخاف كثيرا إن أرادت معاندتي.. أخاف أن تكون أقوى مني لتملي عليَّ ما تريد.. فأذهب لأحذف الكلمات من هنا وهناك.. أتحدى رغبتها في الاسترسال وأنتصر لرغبتي.. وبمتعة خالصة قد أنهي القصيدة من دون أن تفصح عن قصدها.

عندك قصائد فيها سردية مسترسلة أحياناً؟

^ أعتقد أن السردية ليست فخاً.. فهناك النص الذي لا يحتمل التكثيف وهناك النص المفتوح على أفق، بالعكس هناك نص بديع سردياً ومدهش ويكون مرتاحاً اكثر في ثوبه الواسع.. نعم لجأت إلى الاسترسال في قصائد قليلة جدا مثل (طابع بريد شفاف) الذي جاء في صيغة خطاب مباشر يعتمد على تلك السردية التي ذهبت اليها متعمدة.. لأنني كنت أعتمد هنا على الحكاية كخلفية، الحكاية التي كانت تطل برأسـها أحــيانا وتــرغب في بعض البوح.. لا تنسي أيضا انها قد تكون قصيدة صغيرة وتصنع عالما وقد يكون النص طويلا ولا يقول شيئاً.

مضى زمن لا بأس به على نشر ديوانك السابق؟

^ أحببت أن أنشر بعد الابتعاد عن التجربة زمنياً حتى ان قابلتني أسئلة الآخر/ القارئ أكون قد تجاوزت هذا الشخصي الى براح آخر.

ثمة من قرأ مجموعتك في منحى شخصي تماماً وخلص الى انك لست بخير؟

^ هاتفتني صديقة بعد قراءة الديوان لتسألني في لهفة: هل انت بخير؟
فضحكت.. هذه الضحكة تعكس حظنا التعس في فهم الأدب في اطار الحياة الشخصية للكاتب.. حتى وإن استمد منها أو كنت أعتمد في قصائد قليلة على ما يمكن أن أسميه توثيق الحدث، الا أنني أحب ان يتم تناول التجربة جمالياً، على مستوى النص، وليس على أي مستوى آخر.

ثمة طرافة (وهذه من المفارقات) في التعامل هنا مع الموت؟

^ الطرافة كانت تأتي حينما كنت أتعامل مع فكرة الموت بمثل تلك البساطة التي تشبه حياتي (ألعق وحدتي مثل كلب يتذوق للمرة الأولى طعم الآيس كريم)، (لا تخبره بأنني كنت ألتهم الطبق الأخير من الكريم كراميل قبل عودتك)، (كن واثقاً وصبوراً إن قابلت الله)… كنت أحاول إيجاد ممكنات أخرى لأفعال حياتية بعد الموت، كنت أفكر في أن الآخر هنا يستطيع أن يسير خلف المرآة، وليس أمامها، فليس ثمة جسد مادي يريد رؤيته.. فوق العمارة الشاهقة وليس أسفلها.. طرح مثل تلك الإمكانات هي التي حلقت بالنص من المستحيل الى الممكن.. .حتى ان كان هذا الممكن سيظل مستحيلا أيضا لأنني لن أتمكن أبداً من اختباره.. لذلك تراجعت كما تقولين (ان رأيت شيئاً بخلاف النجوم لا تدعني أعرف)، وكأنني لا أريد أن أتماهى مع تلك الحياة الأخرى.. صرنا بين عالمين فقط.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى