نوافذ للحوار| عزت القمحاوي: لغة الرواية هي لغة العيون (حوار: عناية جابر)

 

حوار: عناية جابر

في إصداره الروائي الجديد عن "دار الآداب" تحت عنوان "البحر خلف الستائر"، يأخذك الكاتب المصري عزت القمحاوي في رحلة عزلة عاشها، طاولت بأذاها وجوده الإنساني، وفقدان تواصله مع الآخرين ومع المكان. إيماءات الجسد هنا تلعب دوراً بالغ الدلالة، والعين بوصلة لالتقاط الأشياء المهملة التي تغدو أكثر من ضرورية في رحلة العزلة هذه. معه هذا الحديث:ـ لنتحدث أولاً عن هذه الكتابة التي قد لا تكون مألوفة في السرد العربي، كتابة العزلة التي تعتمد على التأمل والصوت الداخلي.

ـ كنت أحب أن أعرف منك، هل الرواية حزينة إلى حد يؤلم القارئ؟

بالتأكيد لم أقصد إيذاء شريكي في هذا العمل. أعول كثيرًا على شراكة القارئ وعلى متعتنا قبل الأفكار؛ فالرواية مكان للعب أولاً، وقد يتصادف أن يجد الطرفان (القارئ وأنا) أن هذا اللعب يقود إلى بعض الاكتشافات، أو يوحي ببعض الأفكار. أما بخصوص العزلة، فربما ينبغي أن نفرق بينها وبين الاغتراب، فالعزلة هي فقدان التواصل مع الآخرين، بالانقطاع الطوعي أو القهري في مكان منعزل أو بالامتناع القهري والطوعي كذلك عن التفاعل، والأديان تعرف هذا الاعتزال في المكان واعتزال التعامل مع الآخرين بالصوم عن الكلام أو اعتزال الجنس الآخر، لغايات إيمانية، والكاتب والمفكر قد يعتزل لغايات إبداعية، بينما قد ينقطع الطريق على شخص أو قد يفتقد البشر المتواجهين وسيلة التفاهم كما في برج بابل الأسطوري. وهذا كله ليس في قسوة الاغتراب الذي يعبر عن حالة نفسية أساسها الإحساس بافتقاد الحرية والمكانة التي تحقق الرضى عن الوجود، سواءً كان هذا الإحساس حقيقيًا أم متوهمًا. وأظن أن العزلة والاغتراب موجودان معًا في البرج الموصوف بالرواية. ذلك البناء نفسه يبدو معزولاً، لا نكاد نعرف شيئًا عن المدينة التي تضمه، الطارئون معزولون في غرفهم وفي لغاتهم. بعضهم تبدو أسباب وجوده قهرية "مفاوضون نازحون من مكان صراع دموي" وبعض قد يبدو مجرد سائح وبعض تبدو أسباب وجوده مجهولة، هذا بخلاف طاقم الخدمة الذي قد نفهم ضمنًا سبب وجوده في هذا الفخ المتطاول نحو السماء.

تقاطع عالمين

ـ هذه القيود اللامرئية تخدر الطارئين وفي "مدينة اللذة" كانت الرائحة تخدر البشر الظلال فتنسيهم من أين جاؤوا، ما العلاقة بين العملين؟

ـ كان هيمنجواي يقول لنفسه عندما يبحث عن بداية جديدة: "اكتب عن أول شيء حقيقي تعرفه" أظن أن هذا أهم درس يجب أن يعيه الكاتب. والشيء الحقيقي الذي عرفته وكتبته في هذه الرواية هو تجربة العيش في فندق لفترة طالت بعض الشيء، كتبت ما عرفته بحواسي التي أثق فيها بأكثر مما أثق برأسي. وعرفت مثل هذا العالم في "مدينة اللذة" وأظن أن هذا سبب التقاطع بين عالمي الروايتين. يبدو أن المكان يكتب معنا، يؤثر في حواس الكاتب ومن خلال تأثيره في اللاوعي يطبع النص ببعض سماته. وفي العملين سمات المكان الخليجي، لكنني أتوخى ألا تتحول الكتابة إلى هجائية لمكان ذهبت إليه بكامل رضاي أو تعمم أحكامًا ضد مجتمع متعدد ككل المجتمعات.
أستطيع أن أرى تقاطعات أخرى مع مدينة اللذة، عندما أنظر إليهما من موقع القارئ. اكتشفت بعد الانتهاء من "البحر خلف الستائر" أنها قصيرة كـ "مدينة اللذة" لغتها مكثفة تكاد تكون "مغتربة" في أرض السرد وتتطلع نحو الشعر، وهي مثلها شديدة الوحشة.

ـ الجسد في "البحر خلف الستائر" لا يبدو مستسلمًا، بل يقدم دفاعاته ضد هذه الوحشة..

ـ لم أمر بتجربة السجن، لكن الذين مروا بتلك المحنة يروون آليات الجسد في الحفاظ على حياته مثل التمشية في الزنزانة لتلافي تيبس المفاصل واستقطار السعادة من ذكريات حلوة. وفي اعتقادي أن الإنسان يعيش بقدر براعة جسده في الدفاع عن نفسه، الجسد هو جوهر الإنسان، الجوهر الذي نعرفه على الأقل؛ فالروح سر. وحتى في الجحيم والفردوس سيقع الجزاء على الجسد.
ولا يحتاج الجسد البسالة في السجن فحسب أو في برج هذه الرواية، الذي هو في النهاية سجن ناعم وغير مدان من منظمات حقوق الإنسان. قدر الجسد أن يكون محط العقوبة والمكافأة، والعقوبات التي تقع عليه ليست مادية دائمًا؛ بل إن أغلظها هو ما يكون وهمًا وخوفًا. في المعتقل يدمرون مقاومة السجين قبل استجوابه بأصوات تعذيب في الزنزانة المجاورة، أو أثر التعذيب على أجساد من مروا بالتجربة قبله.
وفي الرواية يرى الطارئ غيره من الطارئين يهرمون ويسقطون في وحدتهم، فيخترع طرقًا للمقاومة: التأني في تناول الطعام، الحركة بين الغرفة والنادي الصحي، الاستمتاع بالعري، الانسياق وراء الكسل. ورغم أن كل طموحات الحب غير متحققة لكن الأجساد لا تكف عن التباهي بنفسها، ولا تكف عن التطلع للآخر في محاولة لكسر العزلة.

حرية التوهم

ـ تفتح الباب للحديث عن اللغة في "البحر خلف الستائر" التي تبدو حسية ومقتصدة في الوقت ذاته؟

ـ لا يوجد الكثير من الكلام في الرواية. اللغة الموحدة للبرج هي لغة العيون، عبء السرد تحمله العين تمامًا، فهي تستعطف وتنهر، تحب وتكره، لا حوار بغيرها. وأما عن لغة الكلام في الروايات، فأرى أن تجديد اللغة من أكبر مهام الرواية أهمية. وإذا ما أدركنا ضرورة تناسب المقام للمقال يجب أن يمتلك الروائي لغات عدة لا لغة واحدة. وبعيدًا عن حكم القيمة الجمالي؛ فالحياة في معسكر تمضي بلغة مقتضبة مثلها مثل الحياة في برج يضم طارئين مستوحشين يبحثون عن الحنان، لكن اقتضاب المعسكر يلتزم صرامة الأوامر العسكرية التي تصل إلى المخ واضحًة لتترجم أفعالاً، الجملة صارمة كتصويبة البندقية. في البرج الاقتضاب يتمحك في الشعر، هو اقتضاب الفرصة النادرة، يجب أن تذهب جملة الغزل المقتضبة في مصعد أو ممر نحو الروح مباشرة مثلها مثل النظرة المتشهية.
والروائي لا يحتاج إلى براعة خارقة ليفعل هذا وليس عليه تعمد اختيار لغة قبل أن يبدأ بالكتابة، كل ما عليه أن ينصت جيدًا لشخصياته وأن يعيش ورطتها، وسيجد نفسه يتكلم تلقائيًا اللغة السديدة.

ـ بين جملة البداية "لا يعرف متى يمكنه أن يغادر" وجملة النهاية عندما حاصرته رائحة حبة مانجو دستها أمه في حقيبته لحظة وداعه في ذلك اليوم البعيد، تركت الطارئ دون أن نعرف هل سيتمكن في يوم ما من مغادرة البرج أم لا، وبدت الرواية من قصرها كما لو كنت تركتها ناقصة، نجوت بنفسك وتركت الطارئين يواجهون مصيرهم في البرج.

ـ الرواية فن ولد مع تطلع الإنسان للحرية، هو ابن رحابة التعدد، وأنا أحب النهايات المفتوحة، فهي تحقق هذا التعدد وتمنح القارئ الحق في اختراع ما شاء من نهايات. والأهم أن يرى أمثولة المصائر المعلقة فينحاز إلى حريته. ورغم ملاحظتك المضيئة حول آليات الجسد للدفاع عن نفسه، أي للدفاع عن حريته، فهي ليست الآلية الوحيدة في الرواية، هناك وجهات النظر المتعددة في الموقف الواحد مهما كان تافهًا؛ فجلسة طارئ ذاهل عما حوله مستقبلاً البحر، سيبدو في عين فراشة طارئة رجلاً رومانسيًا يصلح صيدًا، وفي عين فراشة نادلة هو صياد ماهر اختار الركن البعيد لصق الواجهة الزجاجية كي يستدرج فراشة خرجت من شرنقة دودة مهملة لم تنبه ابنتها إلى أن الزجاج الساكن بلؤم يسرب الضوء لكنه يقتل الفراشات المندفعة.
النهاية المفتوحة إذًا هي إحدى آليات تحقيق الحرية، إلى جانب حرية التوهم وبعض الذكريات التي تفتح بعض نوافذ النور في برج يخفي البحر بالستائر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى