«نيرودا» للتشيلي بابلو لارايين… مسرّات شاعر وحيواته
لا يؤرخ شريط التشيلي بابلو لارايين «نيرودا» (108 د) سيرة مؤلف «أشهد أني قد عشت» (1974) و «إقامة في الأرض» (1933)، بل انتخب حدثاً سياسياً وإشكالياً فريداً تعرّض له، حينما استهدفته قوات أمن الديكتاتور غونزاليس فيديلا عام 1948، وأرغمته على الاختفاء والفرار عبر البلاد، وكان من نتائجه ملحمته الثريّة «النشيد الشامل» (1950). صاغ لارايين رؤية سينمائية تداخل فيها الشعر وترميزاته مع التاريخ ووقائعه والجغرافيا ومشهدياتها الخاطفة والشخصيات المُستلَفة من خيال خصب وطلّاتها العجائبية، مشكّلاً عناصر دينامية لسيرة «مصطنعة» عن مطاردة مديدة وفاشلة بين قامة أدبية غارقة بشراسة في عقيدتها السياسية التي تتفجر بقصيدته الشهيرة «إني أتهم»، وشخصية ضابط استخبارات مُختلق وممسوس بإنفاذ عمله والقبض على مطلوب «تتعقبه كل تشيلي»!
مَنْ يبحث عن حيوات نيرودا يجدْها هنا بأناقة باذخة ومكثفة. سيرى زير نساء محاطاً بعشرات من بائعات الهوى، متوارياً عن أزلام فيديلا خلف أجسادهن وشعورهن المستعارة وأصباغ وجناتهن، مثلما يستلذ بشهواتهن ولياليهن المفعمة بالمجون والشبق والنبيذ والطبخ! سيقابل شيوعياً حروناً يستغوي متعقبيه بنسخ من ديوانه «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» (1924)، مردداً مع عشاقه أشهر أبياتها: «هذه الليلة، أستطيع أن أكتب أشدّ الأبيات حزناً». سيتعرف على روح وطنية متهمة بالخيانة إلا انها غير هيّابة لخوض مغامرة تقودها نحو أقاصي فردوس خائب، وشهاداتها لمظلمات وفاقات وإقصاءات طبقية يواجهها مواطنون مهزومون لكنهم فخورون بنخواتهم. سيرافق ذلك المشاهد تجليات القصيدة وغنائياتها والتزاماتها الأممية ضد القهر، سيسمع أبياتها كما يلقيها نيرودا أو مغناة بصوت عابرين أو يرى كلماتها وهتافاتها مطبّقة درامياً كأفعال تحريضية ومقاومة على يد شباب ثوريّ يهبّ للدفاع عن شاعر وضمان حصانته، ونُصرة عضو مجلس شيوخ لن يتوانى عن مناكفة رئيس خائن راقد في فراشه الحكومي أو العويل كذئب جبلي مستغوياً متعقبه الفاشي الحامل لاسم رئيس جهاز الأمن السيئ الصيت آنذاك أوسكار بيلوشون (الممثل المكسيكي غايل غارثيا بيرنال)، للموت عند فخ جليدي في أعالي جبال «الأنديز».
كلمات من نار
شريط صاحب «جاكي» (2016) لا يشبه غيره رغم استلافه روح الـ «جنر» (نوع) الخاص بـ «فيلم الطريق». يُقابل بين قناعتين عدوتين من دون أن يقع في فخ التفخيم للأولى، أو اللعن للثانية. السبب، أن نصّ غوليرمو كالديرون (ألف الفيلم السابق للاريين «النادي»، 2015) وضع الشاعر كما عاش حيواته بالضبط. مبدع حزبي، رأى أن وجوده ملك لكون مليء ببشر لم تنصفهم السياسات ومرتزقتها، واجداً أن القصيدة «نبي شعبي» سلاح دعواته كلمات من نار تثير البسالات، يؤكدها نائب يميني بقول شهير في مفتتح الفيلم: «ما إن يخرج هذا الرجل ورقة من جيبه حتى يصمت عشرات الآلاف من الشغيلة”. في المقابل، هناك مخبر عميل، كلفه طاغية أن يلقي القبض على الأديب الشيوعي وإذلاله. مشكلة هذا الهجين أنه صنيعة الشاعر ذاته. كائن مثيولوجي بلا حيلة يصف نفسه بأنه «مصنوع من ورق ومكتوب بحبر أسود». عنيد وساقط الذمة. يخونه الحظ في كلّ مرة يقترب من وكر اختفاء طريدته. حينما يلتقي مع الرسامة داليا زوجة الشاعر (الممثلة الأرجنتينية مرسيدس موران) تشتمه بوصف مزدوج: «أنت نصف أخرق نصف بليد»، ذلك أن «في هذه الرواية، كلنا ندور حول شخصية رئيسة. بطل أو شخصية ثانوية». يرفض أوسكار توصيفه بـ «ثانوي»، فهو ضمن سياقات الملاحقة التاريخية، يمثل إثباتاً درامياً وتغريبياً ـ حسب مفهوم الألماني برتولد بريشت لثراء مغامرات الشاعر وخصب دنياه الملّونة بالمسرّات والصداقات والأمجاد والحذاقات، مقابل جدب عالمه كعميل حكومي ووحدانية شخصيته وارتياباتها وانحطاطها. الى ذلك، مَثَّل أوسكار تبريراً إيديولوجياً مرناً قاربه الثنائي لارايين/ كالديرون بحذر لحقيقة أن مثالية المناضل ـ في حالة نيرودا ـ لن تعني بمغازيها السياسية الكثير لمشاهد اليوم، خصوصا أن «اندحار» الشيوعية عام 1989 خلق حالة عداء مضمرة لكل ما يمجدها. وعليه فقرارهما الحصيف بجعل الشاعر أكثر من متحزّب ومُسَطِّر قصائد ومحتفٍ بوجدانيات، وتثويره الى «خالق» درامي لرمز سلطوي مقابل ومروع له في آن معاً، يملك بأساً متبدّلاً. أن أوسكار هو وجه تقليدي لسطوة فاشية لن تبور أو تشحب في عالمنا اليوم، إنما نجحت في تجديد خطاباتها وتوسيع منابتها وتكثير سفاكيها، مثلما أفلحت في تعميم ضروب لا مثيل في بربرياتها العقائدية. تاريخيا، مات نيرودا بسبب سرطان الدم. وانهزمت الشيوعية بسبب جمود مؤدلجيها وسياسييها، بيد أن أوسكار الخيالي تقتله رصاصة الثنائي لارايين/ كالديرون التي يصوبها بدلا عنهما شغيل شاب لم يشأ خيانة قدوته و «نيروداه»(تمثيل لافت من التشيلي لويس نييكو)، وحينما يحمله على ظهر جواده الى أقرب قرية، نرى الفاشي جثة هامدة في نعشه راقداً كما «دراكولا»، قبل أن يصعقنا بفتح عينيه مرّة أخرى، إشارة الى أن عطشه الأزليّ للدم يجعله مستنكفاً ميتة سينمائية مجانية.
الدخيل الاجتماعي
النزعة المسيّسة لشريط «نيرودا»، رغم روحه الكوميدية وغنائية مشهدياته وثراء تفاصيلها خصوصا في المقاطع الختامية، كما صوّرها ببهاء نادر سيرجيو أرمسترونغ، لم تشذّ عن الاشتغالات السابقة للارايين (مواليد سنتياغو عام 1976) إذ تصبح باكورته «توني مانيرو» (2008) إعلاناً دامغاً لتحريض سينمائي عقلاني ومتوازن لكنه حاسم وشرس لدموية انقلاب أوغستو بينوشيه (1973 ـ 1998). يتشبّه الشاب راؤول بيرالتا بشخصية الممثل جون ترافولتا ورقصاته في فيلم «حمى ليلة السبت» (1977) للفوز بمسابقة على التلفزيون المحلي. هذا «الدخيل الاجتماعي» لن يتوانى عن ارتكاب جرائمه كلما أحس بالمغالبة، ويقدم على تصفية منافسيه بدم بارد، مستنسخاً سطوة مجنونة مكملة لجرائم الانقلابيين خارج الاستوديو وفانتازياته. وفي «نو» (لا)،2012 حَوَّل لارايين شعار المعارضة السياسية لحكم الطاغية خلال استفتاء 1988 الى امتحان لضمير إعلامي يميني غادر وترهيبي ومتواطئ مع الرقابات والخيانات. ذهب فيلم «نيرودا» الى أبعد نقطة تاريخية يمكن استلافها لتوكيد فكرة أن الطاغوت متحوّل ومرعب، ما لم تخلق الشعوب أبطالها لمقاومته. نيرودا ـ لارايين أكثر من قصة عن شاعر مناضل ورجل مهووس بلذّات، انه فهم سينمائي خلّاق وآني لانبعاث شخصيات عملاقة تجابه دمويات متجدّدة. في حديثه للمجلة السينمائية المتخصصة الأميركية «فيلم كومنت»(عدد تشرين الثاني 2016) قال لارايين إن: “القوة الخاصة بنيرودا تحققت عبر جدارته في وصف بلادنا ومجتمعنا ومواطنينا، بطريقة لم يسبق لأي مؤرخ أو إعلامي من تحقيقها. إذا أردت أن تعرف بحق مَنْ نحن، فاقرأ نيرودا. إنه في مياهنا. إنه في كل مكان».
صحيفة السفير اللبنانية