هذه الأدوية تربك الذاكرة والدماغ
تــعـتــــبر الــذاكرة الـــركــن الأساسي في الدماغ، فهي وعاء يضم شبكة من الخلايا العصبية التي تتولى على مر الزمن اكتساب المعلومات وخزنها واسترجاعها عندما تستدعي الضرورة، في شكل يشبه إلى حد كبير ما يفعله جهاز الكومبيوتر.
يتسرّع البعض في إلقاء اللوم على الشيخوخة بأنها وراء تدهور الذاكرة، مع أنها، في كثير من الأحيان، لا ناقة لها ولا جمل في الموضوع، فهناك عوامل أخرى يمكنها أن تؤثر في الذاكرة، مثل شرب الكحوليات، واضطرابات النوم، والجلطات الدماغية، والتوترات النفسية، وانخفاض مستوى بعض الفيتامينات في الدم، والإصابة ببعض الأمراض، مثل الزهايمر، وتناول بعض الأدوية.
نعم، إن تناول بعض الأدوية لعلاج بعض الحالات المرضية لأمد بعيد قد يُحدث تشتتاً موقتاً أو دائماً في الذاكرة، فهناك أدوية لها خاصية التأثير المباشر في خلايا الدماغ، وهناك أدوية أخرى تحجب عمل بعض المستقبلات الكيماوية في خلايا الدماغ، كما أن هناك أدوية تعرقل إرسال الإشارات العصبية إلى كل خلايا الجسم، بما فيها الخلايا المسؤولة عن الذاكرة. فما هي هذه الأدوية؟
هناك مجموعات دوائية وضعت في قفص الاتهام بأنها تُلحق ضعفاً موقتاً أو دائماً بالذاكرة، فإذا كنت تتناول أدوية معينة وأُصبت ببعض الضياع في الذاكرة فليس مستبعداً أن تكون الأدوية هي السبب، وفي هذه الحال يجب على الفور استشارة الطبيب المعالج ليصف الدواء البديل الآمن.
إن أبرز المجموعات الدوائية التي تشكل خطراً على الذاكرة هي:
> مجموعة مضادات الكولين، وهي فئة من العقاقير التي تعوق عمل الناقل العصبي “الأستيل كولين” في الجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي، وتستعمل هذه المضادات في علاج عدد من الأمراض، منها الربو، والسلس البولي، والتشنجات المعدية والمعوية، والتشنجات العضلية، وبعض حالات الاكتئاب، واضطرابات النوم. كما تستعمل أحياناً كعامل مساعد في التخدير. وبما أن الناقل العصبي المشار إليه، له علاقة بالذاكرة والتعلم فإن إعاقة عمله أو نقصه يتسبب في آثار جانبية كثيرة، خصوصاً لدى كبار السن، من بينها إرباك في الذاكرة، والنعاس، وعدم وضوح الرؤية، وربما الهذيان، وجفاف الفم، والإمساك، ونقص التعرق.
> مجموعة الحبوب المنومة، وتعتبر هذه الأدوية الأسوأ على الذاكرة، بغض النظر عن نوعها. ويتمثل ضرر هذه الأدوية في أنها تجعل صاحبها في حال أقرب إلى الغيبوبة وذلك من دون الحصول على النوم الجيد. وتبرز خطورة الأدوية المنومة ليس على الذاكرة وحسب بل في تأثيراتها السلبية في المهارات التي تتطلب حدة اليقظة والانتباه، مثل قيادة السيارة التي تضطرب كثيراً في صباح اليوم التالي بعد تناول الحبوب المنومة ليلاً، بل هناك بحوث كشفت أنه حتى لو تم تناول هذه الحبوب بالجرعات العادية فإن تأثيرها على مهارة القيادة يمكن أن يستمر 11 ساعة وربما أكثر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحبوب المنومة ليست الحل الأمثل لعلاج الأرق المزمن، خصوصاً أن فاعليتها تتلاشى مع مرور الوقت، ما يضطر المريض إلى زيادة جرعتها، كما أن التوقف المباغت عن تناولها يسبب رجوع مشكلة الأرق في شكل أشد. وإذا كان لا بد من الاستعانة بالحبوب المنومة فيجب التقيد بعدد من الشروط الصارمة كي توفر الفائدة المرجوة منها لتفادي آثارها الجانبية قدر المستطاع، وتشمل هذه الشروط:
– أن تؤخذ لتسهل النوم فقط وليس لغايات أخرى، وبإشراف طبي.
– استعمالها وفقاً لتعليمات الطبيب بالجرعات المناسبة وفي الأوقات المحددة.
– إخبار الطبيب بالسوابق المرضية والدوائية.
– تجنب قيادة السيارة في اليوم التالي.
– قراءة النشرة المرافقة للدواء المنوم للاطلاع على آثاره الجانبية.
> مجموعة خافضات الكوليسترول، وتستعمل أدوية الستاتين في خفض مستوى الكوليسترول السيئ في الدم على نطاق واسع، سواء لأغراض علاجية أم وقائية. ولا تخلو هذه العقاقير من العوارض الجانبية، مثل آلام في الرأس، وآلام في العضلات والمفاصل، وعسر الهضم، والتعب، وهناك من يتهمها بأنها تسبب الداء السكري النوع الثاني، وضعف الذاكرة.
وقد رصدت إدارة الغذاء والدواء الأميركية وبعض الأطباء حالات من ضعف الذاكرة عند أشخاص استعملوا أدوية الستاتين بناء على معطيات دراسة أميركية أشرفت عليها الباحثة ليندا روستيفو أستاذة علم الأعصاب وزميلها روبرت كرافت من جامعة أريزونا ونشرت نتائجها على الموقع الرسمي للجامعة. فقد أجرى فريق البحث الدراسة على الخلايا العصبية في المختبر، وبعد إضافة عقار الستاتين إلى الخلايا لاحظ الباحثون تورمات عقدية في الخلايا وفي أذرعها شبيهة بعقد الخرز، لكن المدهش في الأمر هو أن تلك التورمات اختفت بمجرد إيقاف الستاتين وعادت الخلايا العصبية إلى النمو في شكل طبيعي. كما لاحظ الباحثون أن كثيرين من مستعملي الستاتين شكوا من ضعف في الذاكرة، وأن أطباءهم كانوا يقولون لهم أن السبب يعود إلى التقدم في السن أو إلى أشياء أخرى، لكن فريق البحث لا يستبعد أن يكون الستاتين وراء الضعف.
أما في خصوص الأطفال، فقد تحفّظ الباحثون عن وصفها لهم قبل معرفة تأثيراتها على تطور الدماغ والمعارف والذاكرة، فلو ثبت أن هذه الأدوية يمكن أن تؤثر في نضوج الجهاز العصبي فإن نتائجها ستكون كارثية، وفق الباحث روبرت كرافت.
إن المجموعات الدوائية السابقة قد تؤثر في ذاكرة البعض، وهذا التأثير له علاقة بتفاعل جسم المريض مع الدواء، أو مع أدوية أخرى يتناولها المريض، لكن المهم في الموضوع هو أن التأثير السلبي في الذاكرة غالباً ما يكون معكوساً بحيث تعود الذاكرة إلى وضعها الطبيعي ما أن يتوقف المريض عن تناول الدواء. ومن الضروري مراقبة الذاكرة عن كثب عند تناول تلك المجموعات الدوائية، وعلى المريض ألا يبادر من تلقاء نفسه إلى وقف تناول الدواء لمجرد شعوره بأي ارتباك في الذاكرة، بل تجب عليه استشارة الطبيب المختص كي لا تتضرر حالته الصحية لأنه الأقدر على تشخيص الوضع والسيطرة عليه، مع العلم بأن الهدف ليس إثارة الرعب في النفوس، بل التنوير لأخذ الحيطة والحذر من إمكان حدوث تداعيات مستقبلية تجعل الذاكرة في مهب الريح… إذ عندها يضيع كل شيء.
صحيفة الحياة اللندنية