هزيمة الخبز
كثيرون هم الذين طلبوا المغفرة من الأحلام.
صديق عملاق الجسد، رقيق الروح، كلامه قليل. معلّم مدرسة جيد، كل تلامذته يحبونه. ودود ومخلص بمهنة الدهّان، بعد الدوام في المدرسة. المهنة التي تجلب مالاً لا لكي يصرفه على أسرته، بل ليضعه في مغلفات لخمس عوائل محتاجة كراتب شهري.
هذا كلام عن زمن الستينات.
حين بدأت ظاهرة “العمل الفدائي” الفلسطيني، بعد هزيمة العرب في 1976 لم يتحمل هذا الرجل الهزيمة، فترك كل شيء، التعليم والدهان، والتحق بالفدائيين في الأردن، على النهر، وترك وراءه هذه الرسالة لمكتب إحدى المنظمات الفدائية:
“كل ما أطلبه ربطة خبز أسبوعياً لعائلتي” وترك رقم الهاتف والعنوان.
غاب الفدائي سنة كاملة . انتهت ، ليس بتحرير الضفة الغربية ، وإنما بطرد الفدائيين من الأردن إلى لبنان، بعد معارك ومجازر معروفة في الصراع بين المنظمات الفدائية وجيش الملك حسين.
لم يذهب العملاق إلى لبنان، وإنما عاد إلى بيته في سورية، يائساً من الفداء. وقد فوجىء بأن رغيفاً واحداً لم يصل إلى عائلته، فصار يائسا من ” الفدائيويه “وكان هذا سبباً كافياً ليقول:
“بالرغيف يمكن إنتاج هزيمة، أو إبداع نصر. أنتم ستهزمون”.
الآن في الحرب الدائرة في سورية …تفقدته، بعد انقطاع طويل. وزرته في بيته. كان عاجزاً عن النطق، ويده مشلولة، ويبتسم، مازال يبتسم، كطفل في حضن. لكنه عجوز وضئيل وشاحب . وما تبقى من ذلك العملاق لا يدل عليه أبداً.
سألته مداعباً: الآن كثرت العائلات المحتاجة فما أخبار “مغلفاتك” أم الرواتب الشهرية؟
ابتسم، وكتب :عندنا ثلاث عائلات مهجّرة نتقاسم معها ظروف الحنين إلى الأطلال.
ثم جاء رجل طويل، وضخم ويشبهه، فقال معرّفاً، هذا ابني. وكان في يد الشاب مجموعة من المغلفات الشبيهة بتلك التي ، قبل حوالي نصف قرن، وكل شهر كانت في يد والده.
لي خال كان عمره 17 سنة، ذهب إلى القتال مع جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي ضد اليهود عام 1948 واستشهد. وكان جدي يأخذ حاجته ويوزع بقايا راتب دمه في صرر قماشية، على عائلات لتأكل خبزاً.
في كل عام بتاريخ 17 نيسان/ إبريل، يأتي عيد الجلاء في سورية دون أفراح حقيقية إلا إذا اعتبرنا الأغاني الفقيرة المعنى والألحان في التلفزيون والراديو… أفراحاً. وتنتابني، دائماً، تلك الحسرة التي لا دواء لها، ومفادها أن العيد الوطني السوري…لم يترسخ في وجدان السوريين كمناسبة جامعة لشملهم، مانعة لحروبهم رادعه لظلم حكامهم.
فتظل في الذاكرة قصة يوسف العظمة ـ الشهيد الأول في الدفاع عن البلد ضد الغزو الفرنسي. كان وزيراً للحربيه بجيش بسيط ومبتدئ. وقرر أن لا يمر المستعمر إلا على أجسادهم.
قاتل واستشهد في ميسلون…ولم يعد ، طبعاً ، ليرى ابنته ” ليلى” وقد احتاجت لربطة خبز، فهو لم يترك لها شيئاً، من خزائن الجنود التي سرقها وزراء كثيرون بعده ، لاحقا ًودائماً .
حكيت لصاحبي الذي على أهبة الاضمحلال، هذه الحسرات… فبكى. وكتب في “دفتر التفاهم” الذي يستخدمه للحوار مع زائريه :
عزيزي : ” الذي لا خبز له…لا نصر له “.
فقرأت له من الذاكرة هذه القطعة الصغيرة من محمود درويش الذي يحب شعره:
“هنا، عند مرتفعات الدخان، على درج البيت
لا وقت للوقت
نفعل ما يفعل الصاعدون إلى الله:
ننسى الألم.
الألم:
هو أن لا تعلّق سيدة البيت حبل الغسيل، صباحاً
وأن تكتفي بنظافة هذا العلم.”